بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

الرد على الحدادية – الجزء الأول

‫بيان‬‫ فساد‬ ‫أصول‬ ‫فهم‬ ‫الحدادية‬ ‫عن‬ ‫السلف‬ ‫أقوالهم‬ ‫في‬ ‫عدد‬ ‫من‬ ‫مسائل‬ ‫الاعتقاد‬ ‫و‬‫في‬‫ مسألة‬ ‫تكفير‬ ‫أعيان‬ ‫الجهمية‬ ‫ومن‬ ‫قال‬ ‫بخلق‬ ‫القرآن‬ ‫خاصة‬

‫بسم‬‫ ٱللَّٰه ‫والصلاة‬ ‫والسلام‬ ‫على‬ ‫ر‬‫س‬‫ول ‬‫ٱللَّٰه ‫وعلى‬ ‫آله‬ ‫وصحبه‬ ‫ومن‬ ‫والاه‪،‬‬ ‫أما‬ ‫بعد‬‫‪:‬‬

‫اعلم ‬‫ـ‬ ‫وفقك‬ ‫ٱللَّٰه ‫لما‬ ‫يحب‬ ‫ويرضى‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫العناية‬ ‫بكتب‬ ‫العقائد‬ ‫الأثرية‬ ‫المسندة‬ ‫حسن‬ ‫جميل‪،‬‬ ‫بل‬ ‫لازم‬ ‫لمن‬ ‫أراد‬ ‫أن‬‫يقف‬ ‫على‬ ‫أصول‬ ‫اعتقاد‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫والجماعة‬ ‫من‬ ‫لدن‬ ‫القرون‬ ‫الثلاثة‬ ‫المفضلة‬ ‫فمن‬ ‫تبعهم‬ ‫من‬ ‫أئمة‬ ‫الهدى‬‫‪،‬‬‫ وأراد‬ ‫النجاة‬ ‫لنفسه‬ ‫يوم‬ ‫القيامة‬‫‪.‬‬

‫إلا أن‬ ‫هذه‬ ‫الكتب‬ ‫لا ‫يصلح‬ ‫معها‬ ‫عند‬ ‫التعامل‬‫ مع‬ ‫النصوص‬ ‫المروية‬ ‫فيها‬ ‫ب‬طريقة ‬‫الظاهرية‬ ‫ـ‬ ‫أهل‬ ‫الغلو‬ ‫في‬ ‫الظاهر ‬‫ـ‬‫‪،‬‬‫ فإذا‬ ‫انضم‬ ‫إلى‬ ‫ذلك‬ ‫الجهل‬ ‫بأصول‬ ‫فقه‬ ‫أئمة‬ ‫السلف‬ ‫أو‬ ‫خلطها‬ ‫بالدخيل‬ ‫عليها‬ ‫من‬ ‫قِبل‬ ‫متكلمة‬ الأصوليين‬‫ عن‬ ‫حين‬ ‫غفلة‬‫‪،‬‬‫ عظمت‬ ‫المصيبة‬‫‪.‬‬

‫فكما ‬‫أن‬ ‫الحديث‬ ‫النبوي‬ ‫الشريف‬ ‫يقع‬ ‫العلم‬ ‫به‬ ‫بالجمع‬ ‫بين‬ ‫العلم‬ ‫ب‬ه‬‫ رواية‬ ‫ودراية‪،‬‬ ‫فكذلك‬ ‫الآثار‬ ‫السلفية‪،‬‬ ‫ولا ‫يكون‬‫ ذلك‬ ‫إلا ‫بتحصيل‬ ‫آلة‬ ‫الفهم‬ ‫ولا‬ ‫ت‬‫فقه‪،‬‬‫ ولأجل‬ ‫ذلك‬ دو‬‫‫ن‬‬‫ علم‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫كان‬ ‫الإمام‬ ‫الشافعي‬ ‫في‬ ‫كتابه‬‫ الأم‬ ‫يسميه‬ ‫ب‬أصول‬‫ العلم‬‫‪،‬‬‫ وكذلك‬ ‫فعل‬ ‫الإمام‬ ‫ابن‬ ‫عبد‬ ‫البر‬ ‫في‬ ‫جامع‬ ‫بيان‬ ‫العلم‬ ‫وفضله‬‫‪.‬‬

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه ٱللَّٰه: "وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مرجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة" الصارم المسلول ٥١٢/٢.

‫وهذا ‬‫يشمل‬ ‫ما‬ ‫يلي‫‪:‬‬

وهذا ما قصر فيه الحدادية, وهم من أهل الغلو في التبديع وفرع منشق عن المداخلة (والحازمي أحد رجالاتهم إلا أنه زاد في جرعة الغلو في التكفير حتى بلغ حد الجارجية, ومع هذا فلا تزال تجد من الحدادية من يمدحه ويثني عليه!!), فوقعوا في بعض الانحراف عن أئمة السلف ظنا منهم أنهم على آثارهم ماضون, وأنهم لهم وارثون, وكأن الأمر حكر عليهم دون غيرهم, وهم وإن كانت لهم جهود مشكورة في تحقيق كتبهم وجمع رسائلهم وتقريب أقوالهم, إلا أنه لا يعول عليهم في فقهها لضعف الآلة الأصولية عندهم, ولهجرهم لطريقة الفقهاء في تحرير مذاهب أئمتهم, وما حالهم إلا كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٢٠ /١٨٤-١٨٥: "فَصْلٌ:الْمُنْحَرِفُونَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؛ كَبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِينَ مِنْ أَهْلِ جِيلَانَ وَغَيْرِهِمْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد وَغَيْرِ أَحْمَد: انْحِرَافُهُمْ أَنْوَاعٌ:... ", إلى أن قال في النوع الخامس من انحرافهم: "الْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَهُ عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ إطْلَاقٌ أَوْ عُمُومٌ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ بَعْضُ الْعُذْرِ وَقَدْ لَا يَكُونُ كَإِطْلَاقِهِ تَكْفِيرَ الْجَهْمِيَّة الْخِلْقِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطِ انْتَفَتْ فِيمَنْ تَرَحَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ امْتَحَنُوهُ وَهُمْ رُءُوسُ الْجَهْمِيَّة" ‫اهـ‫‪.‬‬

‫وحتى‬‫ لا ‫ي‬تسرع ‬‫المتأثر‬ ‫بهم‬ ‫في‬ ‫ال‫خوض ‬‫في‬ ‫دين‬ ‫ٱللَّٰه ‫بغير‬ ‫علم‪،‬‬ ‫فهذه‬ ‫كبيرة‪،‬‬ ‫ظنا‬ ‫منه‬ ‫ـ‬ ‫كما‬ ‫لُقّن‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫هذا‬ ‫مما‬ ‫تفرد ‬‫به‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وشذ‬ ‫فيه‬‫‪،‬‬‫ وأنه‬ ‫لا ‫يتابع‬ ‫على‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫أسوق‬ ‫ما‬ ‫يلي‬ ‫من‬ ‫آثار‬ ‫السلف‬ ‫لعلها‬ ‫تردهم‬ ‫إلى‬ ‫ا‬‫لصواب‬‫‪:‬‬

‫قال‬ ‫الإمام‬ ‫ابن‬ ‫أبي‬ ‫عاصم‬ ‫رحمه‬ ‫ٱللَّٰه ‫(روى‬‫ عن‬ ‫أبي‬ ‫حاتم‬ ‫الرازي‬ ‫والبخاري‬ ‫وأبي‬ ‫بكر‬ ‫بن‬ ‫أبي‬ ‫شيبة‪،‬‬ ‫ت:‬‬ ٢٨٧ هـ‫) ‬‫في‬ ‫خاتمة‬ ‫كتابه‬ ‫السنة‬ ‫ص ٦٣١‬ ‫‪ عند ‫بيانه‬ ‫لأصول‬ ‫اعتقاد‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬‫‪:‬‬

‫"ومما اتفق أهل العلم على أن نسيوه إلى اسنة: ... ", ومما ذكره قوله: "والقرآن كلام ‫ٱللَّٰه تبارك وتعالى, وتكلم ‫ٱللَّٰه به ليس بمخلوق, ومن قال: مخلوق ممن قامت عليه الحجة فكافر با‫للَّٰه العظيم."

‫فحكى‬‫ الإجماع‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫تكفير‬ ‫أعيان‬ ‫من‬ ‫قال‬ ‫بخلق‬ ‫القرآن‬ ‫مقيدا‬ ‫بمن‬ ‫قامت‬ ‫عليه‬ ‫الحجة‬‫‪،‬‬‫ والإجماع‬ ‫أحد‬ ‫الأدلة‬‫‪،‬‬‫ وحجة‬ ‫ملزمة‬ ‫تقطع‬ ‫النزاع‬‫‪،‬‬‫ ومفهومه‬ ‫أن‬ ‫التكفير‬ ‫لا ‫يقع‬ ‫على‬ ‫معي‬ ‫ن‬‫لم‬ ‫تقم‬ ‫عليه‬ ‫الحجة‬‫‪.‬

‫وقال‬‫ الإمام‬ ‫الشافعي‬ ‫رحمه‬ ‫ٱللَّٰه ‫(‫ت: ٢٠٤ ‬‫‪‬‬‫‪ ‫هـ‫)‪:‬‬‫ "‬للَّٰه ‬‫تعالى‬ ‫أسماء‬ ‫وصفات‬ ‫جاء‬ ‫بها‬ ‫كتابه‬ ‫وأخبر‬ ‫بها‬ ‫نبيه‬ ‫أمته‬‫ لا ‫يسع‬ ‫أحدا‬ ‫من‬ ‫خلق‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫قامت‬ ‫عليه‬ ‫الحجة‬ ‫ردها‪,‬‬ ‫لأن‬ ‫القرآن‬ ‫نزل‬ ‫بها‬ ‫وصح‬ ‫عن‬ ‫رسول‬ ‫ٱللَّٰه ‫صلى‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫عليه‬‫ وآله‬ ‫وسلم‬ ‫القول‬ ‫بها‬ ‫فيما‬ ‫روى‬ ‫عنه‬ ‫العدول,‬‬ ‫ف‬‫إن ‬‫خالف‬ ‫ذلك‬ ‫بعد‬ ‫ثبوت‬ ‫الحجة‬ ‫عليه‬ ‫فهو‬ ‫كافر, ‫أما‬ ‫قبل‬ ‫ثبوت ‬‫الحجة‬ ‫عليه‬ ‫فمعذور‬ ‫بالجهل‬ ‫لأن‬ ‫علم‬ ‫ذلك‬ ‫لا ‫يدرك‬ ‫بالعقل‬ ‫ولا ‫بالروية‬ ‫والقلب, ‫ولا ‫نكفر‬ ‫بالجهل‬ ‫بها‬ ‫أحدا‬‫ إلا ‫بعد‬ ‫انتهاء‬ ‫الخبر‬ ‫إليه‬ ‫بها‬ ‫‪"...‬‬‫ نقله‬ ‫ابن‬ ‫القيم‬ ‫في‬ ‫الجيوش‬ ‫الإسلامية‬ ‫لابن‬ ‫القيم ص ٨٢ من رواية ابن أبي حاتم, ولازم قول من يخالف أن يجعل تكفيرهم على التعيين ولو تقم عليهم حجة الوحي, أن ذلك لقيام حجة العقل عليهم!!

‫وقيل‬‫ للإمام‬ ‫أبي‬ ‫عبيد‬ ‫القاسم‬ ‫بن‬ ‫سلام‬ ‫رحمه‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫(‫ت: ٢٢٤ ‬‫‪‬‬‫‪‫هـ‫)‪:‬‬‫ يا‬ ‫أبا‬ ‫عبيد‬ ‫ما‬ ‫تقول‬ ‫فيمن‬ ‫قال‬ ‫القرآن‬ ‫مخلوق؟ ‬‫فقال‬‫‪:‬‬‫ "‬‫هذا‬‫ رجل‬ ‫يُعلّم‬ ‫ويُقال‬ ‫له‬ ‫إن‬ ‫هذا‬ ‫كفر‪،‬‬ ‫فإن ‫رجع‬ ‫وإلا ‫ضربت‬ عنقه‬‫" ‬‫رواه‬ ‫اللالكائي‬ ‫في‬ ‫شرح‬‫ أصول‬ ‫اعتقاد‬ ‫أهل‬ ‫السنة ٢ /٣٥١‬‬‬, فلم‬ ‫يوجب‬ ‫ضرب‬ ‫عنقه‬ ‫قبل‬ ‫تعليمه‪،‬‬ ‫و‬‫التعليم‬‫ غير‬ ‫الاستتابة‫‪.‬‬ ‫وقال‬ ‫أيضا‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫الإيمان‪،‬‬ ‫عن‬ ‫الجهمي‬‫‪:‬‬‫ "‬منسلخ‬‫عندنا‬ ‫من‬ ‫قول‬ ‫أهل‬ ‫الملل‬ ‫الحنيفية‬ ‫لمعارضته‬ ‫لكلام‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫ورسوله‬‫ صلى‬ ‫‫‫ٱللَّٰه ‫عليه‬ ‫وسلم‬ ‫بالرد‬ ‫والتكذيب‬"‬‫ اهـ‬‫‪.‬‬

‫وهذا‬‫ لا ‫يقع‬ ‫إلا ‫على‬ ‫من‬ ‫بلغته‬ ‫الحجة‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫فمن‬ ‫لم‬ ‫تبلغه‬ ‫حجة‬ ‫الوحي‬ ‫كيف‬ ‫يكون‬ ‫معارضا‬ ‫لها‬ ‫بالرد‬ ‫والتكذيب؟‬‫!‬

‫وجاء‬‫ في‬ ‫الطرق‬ ‫الحكمية‬ ‫لابن‬ ‫القيم‫‪:‬‬‫ "‬وقال‬ ‫الميموني‬‫‪:‬‬‫ سمعت‬ ‫أبا‬ ‫عبد‬ ‫ٱللَّٰه ‫يقول‬ ‫‪:‬‬‫من‬ ‫أخاف‬ ‫عليه‬ ‫الكفر‬ ‫‪-‬‬ ‫مثل‬‫ الروافض‬ ‫والجهمية‬ ‫‪-‬‬ ‫الا ‫تقبل‬ ‫شهادتهم‬ ‫ولا ‫كرامة‬ ‫لهم‪،‬‬ ‫أنا‬ ‫أستتيبهم‬‫" ١ /٤٦٣, فلو‬ ‫كان‬ ‫الإمام‬ ‫أحمد‬ ‫بن‬ ‫حنبل ‬‫(‫ت: ٢٤١ ‬‫‪ ‫هـ‬) ‬‫يرى ‫كفر‬ ‫جميعهم‬ ‫على‬ ‫التعيين‬ ‫ف‬ل‬‫م‬‫ يخاف عليهم ‫ذلك؟‬ ‫!!‬

‫وسئل ‬‫الإمام‬ ‫في‬ ‫اللغة‬ ‫أبو‬ ‫منصور‬ ‫الأزهري‬ ‫الهروي‬ ‫(صاحب‬‫ كتاب‬ ‫تهذيب‬ ‫اللغة‪،‬‬ ‫سمع‬ ‫من‬ ‫ابن‬ ‫أبي‬ ‫داود‪،‬‬ ‫ت: ٣٧٠ ‬‫‪ ‫ هـ‬‫)‬‫ عمن‬ ‫يقول‬ ‫بخلق‬ ‫القرآن‬‫‪:‬‬‫ أتسميه‬ ‫كافرا؟‬ ‫فقال‬‫‪:‬‬‫ "‬الذي‬‫ يقوله‬ ‫ك‬‫ف‬‫ر‬‫"‬‫‪،‬‬‫ فأعيد‬ ‫عليه‬ ‫السؤال‬ ‫ثلاثلا,‬ ‫ويقول ‬‫مثل‬ ‫ما‬ ‫قال‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫قال‬ ‫في‬ ‫الآخر‬‫‪:‬‬‫ "‬قد‬‫يقول‬ ‫المسلم‬ ‫كفرا‫" ‬‫نقله‬ ‫ابن‬ ‫الأثير‬ ‫في‬ ‫النهاية‬‫‪‬‬ ٤ /١٨٦ وعنه‬ ‫ابن‬ ‫منظور‬‫ في‬ ‫اللسان‬‫‪‬‬ ٥٣٨٩٨, فأفاد‬ ‫قول‬ ‫الخزاعي‬ ‫والأزهري‬ ‫أن‬ ‫أحكام‬ ‫التكفير‬ ‫لا‬ ‫يلزم‬ ‫إيقاعها‬ ‫على‬ ‫الأعيان‬ ‫بإطلاق‬‫ دون‬ ‫قيد‬ ‫أو‬ ‫ضابط‬‫‪.‬‬

والمخالف في هذا من الحدادية ومن قال بقولهم في هذه المسائل فهمهوا من صيغ العموم في قول السلف: الجهمية كافر (الألف واللام الاستغراقية من صيغ العموم), وقولهم: من قال أن القرآن مخلوق فهو كافر ("من" اسم موصول وهو صيغ العموم), أنها تشمل كل فرد مهما اختلف حاله سواء في ذلك ‫أبلغته‬‫ الحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫وتمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بها‬ ‫أو‬ ‫لم‬ ‫تبلغه, ‫باستثناء‬ ‫ال‬‫مكره, وهذا‬ ‫لا ‫يمت‬ ‫الأصول‬ ‫العلم‬ ‫عند‬ ‫السلف‬‫ في‬ ‫دلالة‬ ‫العام‬ ‫ب‬‫صلة‬‫‪,‬‬‫ وإنما‬ ‫هي‬ ‫طريقة‬ ‫جمهور‬ ‫متكلمة‬ ‫الأصوليين, ‫كما‬ ‫نبه‬ ‫وبين‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫عدة‬ ‫مواطن‬‫ من‬ ‫مجموع‬ ‫الفتاوى‬ ‫ومنهاج‬ ‫السنة, ‫من‬ ‫أن‬ ‫العام‬ ‫لا ‫يستلزم‬ ‫العموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال, ‫وأنه‬ ‫مطلق‬ ‫فيها, وعليها خرج ما قرره حول الوعد والوعيد والتكفير واللعن والتفسيق, من تفريق في ذلك بين الحكم المطلق وحكم المعين, وأن الحكم لا يلزم وقوعه على المعين إلا من تحقققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع, وذكر ما مفاده أن القول باستلزم العام للعموم في الأحوال, مخالف لقول أئمة السلف, وأنه لا وجود له, أي في لسان العرب, وقد أفضت في بيان ذلك بفضل ٱللَّٰه في كتاب كشف الالتباس.

ومما قاله ابن تيمية في ذلك: "وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ كُلَّمَا رَأَوْهُمْ قَالُوا: مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَهُ", يفسره قوله قبلها في نفس الفتوى المسماة بالكيلانية: "وَأَمَّا تَكْفِيرُ قَائِلٍ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ ضَبْطِهِ اضْطَرَبَتْ الْأُمَّةُ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَمَا اضْطَرَبُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي سَلْبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْكَبَائِرِ" (مجموع الفتاوى ٤٦٦/١٢ و ٤٨٧), أي ‫أن‬ ‫الذي‬ ‫أصابهم‬ ‫في‬ ‫ألفاظ‬ ‫العموم‬ ‫في‬ ‫كلام‬ ‫الأئمة‬ ‫عند‬ ‫تكفيرهم‬ ‫لأصحاب‬‫ البدع‬ ‫الكفرية‬ ‫هو‬ ‫الاضطراب, ‫والذين‬ ‫أصابهم‬ ‫ذلك‬ ‫غير‬ ‫الأئمة‪،‬‬ ‫أي‬ ‫إنما‬ ‫أصاب‬ ‫أتباعهم‬ ‫من‬ ‫بعدهم, وعدّ‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫نوع‬ الالضطراب‬ ‫الذ‬ي‬‫ وقع‬ ‫للوعيدية‬ ‫والمرجئة‬ ‫في‬ ‫عمومات‬ ‫ألفاظ‬ ‫نصوص‬ ‫الوحي‬ ‫في ‬‫الوعيد‬ ‫لأصحاب‬ ‫الكبائر‬ ‫التي‬ ‫دون‬ ‫الكفر, ‫وذلك‬ ‫أن‬ ‫كلا‬ ‫من‬ ‫نصوص‬ ‫الوحي‬ ‫بالوعيد‬ ‫ونصوص‬ ‫الأئمة‬ ‫بالتكفير‬‫ أغلبها‬ ‫ورد‬ ‫بصيغ‬ ‫العموم‬‫‪.‬‬

‫فهذا‬‫ أحد‬ ‫وجهي‬ ‫منشأ‬ ‫الخطأ‬ ‫عند‬ ‫هؤلاء, وأما‬ ‫الوجه‬ ‫الثاني‬‫‪:‬‬

‫ف‬‫يستف‬‫اد‬‫ من‬ ‫قول‬ ‫الإمام‬ ‫الشافعي‬, بأن‬ ‫يُقال‬‫‪:‬‬‫ أن‬ ‫من‬ ‫كفر‬ ‫الأعيان‬ ‫قبل‬ ‫قيام‬ ‫الحجة‬ ‫عليه, ‫يلزمه‬ ‫القول‬ ‫بتكفيرهم‬ ‫لقيام‬‫ حجة‬ ‫العقل‬ ‫عليهم, ‫وليس‬ ‫ثمة‬ ‫احتمال‬ ‫ثالث,‬ ‫و‬‫من‬‫ الحدادية‬ ‫من‬ ‫يلتزم‬ ‫ذلك‬ ‫و‬ يقرر‬‫ه‬‫تبعا‬ ‫لمن‬ ‫ز‬ل‬‫في‬ ‫ذلك‬ ‫من‬‫ أتباع‬ ‫الأئمة‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬, وهذا‬ ‫في‬ ‫ح‬‫قيقة‬‫ الأمر‬ ‫قول‬ ‫المعتزلة‬, حيث‬ ‫كف‬ ‫روا‬‫من‬ ‫ي‬خالفه م‬‫فيما‬ ‫يقررونه‬ ‫من ‬‫أصول‬ ‫كلامية‬ ‫حول‬ ‫ما‬ ‫يسمونه‬ ‫بالتوحيد‬ ‫والعدل, ‫و‬‫فرعوا ‬‫ذلك‬ ‫على‬ ‫أصلين‬ ‫عندهم‬‫‪:‬‬

‫الأصل‬‫ الأول‬‫‪:‬‬‫ وجوب‬ ‫النظر‬ ‫الكلامي‬ ‫لمعرفة‬ ‫الصانع‬ ‫وما‬ ‫يجب‬ ‫له‬ ‫من‬ ‫صفات‬, وكفروا‬ ‫المخطئ‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫والجاهل‬‫به‪,‬‬ ‫وفي‬ ‫هذا‬ ‫وافقهم‬ ‫جمهور‬ ‫الأشاعرة‬ ‫في‬ ‫التكفير‬‫‪.‬‬

‫الأصل‬ ‫الثاني‫‪:‬‬‫ القول‬ ‫بالتحسين‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقلي‬ ‫على‬ ‫وجه‬ ‫من‬ ‫الغلو‬ ‫في‬ ‫ذلك‬, وهو‬ ‫متعلق‬ ‫بمسائل‬ ‫محددة‬ ‫كما‬ ‫هو‬‫ مسطور‬ ‫في‬ ‫كتبهم, ‫ورتبوا‬ ‫عليه‬ ‫التكليف‬ ‫من‬ ‫إيجاب‬ ‫وتحريم‬ ‫و‬‫إ‬‫ط‬‫لا‬‫ق‬‫ الأس‬‫م‬‫ا‬‫ء ‬‫ع‬‫ل‬‫ى‬‫ ‫الأ‬‫ع‬‫ي‬‫ا‬‫ن‬‫ بحجة‬ ‫العقل, وإلحاق‬ ‫ح‬‫ك‬‫م ‬‫الوعيد‬ ‫بالمخالف‬ ‫قبل‬ ‫ورود‬ ‫السمع, ‫أي‬ ‫بلوغ‬ ‫الوحي‬‫‪.‬‬

ولعل الإمام الشافعي أراد بقوله ذلك الرد عليه, وقد زلّ وقال بشعبة من قولهم بعض أهل العلم كالإمام أبي حنيفة - وقد صح ذلك عنه - والإمام ابن جرير الطبري كما في كتابه التبصير في معالم الدين وغيره من أتباع أئمة السلف.

‫و‬‫قد‬ ‫نبه‬ ‫إلى‬ ‫جذور‬ ‫هذا‬ ‫القول‬ ‫الكلامية‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫رحمه‬ ٱللَّٰه ‫وعفا‬ ‫عنه‬ ‫حيث‬ ‫قال‬‫‪:‬‬

"هَل يكون مُؤمنا من اعْتقد الْإِسْلَام دون اسْتِدْلَالأم لَا يكون مُؤمنا مُسلما الإمن اسْتدلَّ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) ذهب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ والأشعرية كلهَا حاشا السمناني إِلَى أَنه لَا يكون مُسلما إِلَّا من اسْتدلَّ وَإِلَّا فَلَيْسَ مُسلما وَقَالَ الطَّبَرِيّ من بلغ الِاحْتِلَام أَو الاشعار من الرِّجَال وَالنِّسَاء أَو بلغ الْمَحِيض من النِّسَاء وَلم يعرف ٱللَّٰه عز وَجل بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته من الطَّرِيق الِاسْتِدْلَال فَهُوَ كَافِر حَلَال الدَّم وَالْمَال وَقَالَ أَنه بلغ الْغُلَام أَو الْجَارِيَة سبع سِنِين وَجب تعليمها وتدريبهما على الِاسْتِدْلَال على ذَلِك وَقَالَت الأشعرية لَا يلْزمهَا الِاسْتِدْلَال على ذَلِك إِلَّا بعد الْبلُوغ (قَالَ أَبُو مُحَمَّد) وَقَالَ سَائِر أهل الْإِسْلَام كل من اعْتقد بِقَلْبِه إعتقاد الا يشك فِيهِ وَقَالَ بِلِسَانِهِ لَا إِلَه إِلَّا ٱللَّٰه وَأَن مُحَمَّد رَسُول ٱللَّٰه وَإِن كل مَا جَاءَ بِهِ حق وَبرئ من كل دين سوى دين مُحَمَّد صلى ٱللَّٰه عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ مُسلم مُؤمن لَيْسَ عَلَيْهِ غير ذَلِك" الفصل في الملل والنحل ٤ /٢٨-٢٩ [ط.: مكتبة دار السلام العالمية, وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني].

وقد نقل قوله هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه ٱللَّٰه مقرا له ومعقلا عليه قائلا: "قلت: القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام، وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم، ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة، وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر، لا سيما القدرية منهم، فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية، وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم، بل هم متنازعون في ذلك." (درء تعارض العقل والنقل ٧ /٤٠٦-٤٠٧ ), والقدرية في هذا السياق هم المعتزلة.

وقال ابن تيمية أيضا: وَنَشَأَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ " فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ وَحَكَوْا ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ وَنَفَى ذَلِكَ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ (مجموع الفتاوى ٨ /٩٠), ويفسر وجه الموافقة قوله في موطن آخر: "وطائفة تقول: بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة، وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل، وإن لم يرد سمع، كما يقول ذلك المعتزلة، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم،: أبي الخطابي وغيره" (درء تعارض العقل والنقل ٨ /٤٩٢-٤٩٤, وأبو الخطاب: هو الكلوذاني الحنبلي).

وقد حكى الإمام أبو نصر السجزي رحمه ٱللَّٰه (الملقب بشيخ السنة, ت: ٤٤٤ ‫هـ‬) في رسالته "الرد على من أنكر الحرف والصرف" اتفاق السلف على أن الحجة موقوفة على الوحي ولا مدخل للعقل فيها, ليس من جهة الوعيد فحسب, بل وكذلك من جهة التكليف, إذ الوعد والوعيد مترتبان على التكليف, قال السجزي: "إقامة البرهان على أن الحجة القاطعة هي التي يرد بها السمع لا غير وأن العقل آلة للتمييز فحسب. قال ٱللَّٰه سبحانه لنبيه صلى ٱللَّٰه عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. فأمر جل جلاله نبيّه عليه السلام أن يدعو إلى إثبات الوحدانية بالوحي وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} فبيّن أن من تقدم من الرسل كانوا يحتجون على الكفار في الوحدانية بالوحي ولم يؤمروا إلا بذلك... واتفق السلف على أن معرفة ٱللَّٰه من طريق العقل ممكنة غير واجبة، وأن الوجوب من طريق السمع لأن الوعيد مقترن بذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاًً} فلمّا علمنا بوجود العقل قبل الإِرسال، وأن العذاب مرتفع عن أهله، ووجدنا من خالف الرسل والنصوص مستحقا للعذاب بينا أن الحجّة هي ما ورد به السمع لا غير... على أنّ الأشعري يزعم أن العقل لا يقتضي حسناً ولا قبيحاً. وهذا لعمري مخالفة العقل عياناً، وسيأتي بيان ذلك في غير هذا الفصل بمشيئة ٱللَّٰه عز وجل. وإذا ثبت ما قلناه زال شغبهم في أن العقل يقتضي ما يقولونه، لأنا لم نؤثر باتباع عقل يخالف السمع، وسنذكر كذبهم في اقتضاء العقل ما صاروا إليه بعد هذا إن شاء ٱللَّٰه عز وجل" ‫اهـ‬‫‪.‬‬

وقال الإمام اللالكائي (ت: ٤١٨ ‫هـ‬) رحمه ٱللَّٰه في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم":

سِيَاقُ مَا يَدُلُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِالسَّمْعِ لَا بِالْعَقْلِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَامُّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: ١٩]. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: ١٠٦]. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: ٢٥]. فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بِالسَّمْعِ وَالْوَحْيِ عَرَفَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ التَّوْحِيدَ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: ٥٠]. وَقَدِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ بِأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتْقَنَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا, وَظُهُورِ الْقَمَرِ وَغَيْبَتِهِ, وَظُهُورِ الْكَوَاكِبِ وَأُفُولِهَا, ثُمَّ قَالَ: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: ٧٧], فَعُلِمَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَقَعَتْ بِالسَّمْعِ. وَكَذَلِكَ وُجُوبُ مَعْرِفَةِ الرُّسُلِ بِالسَّمْعِ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥]. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: ١٦٥]. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ, وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ, وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: ٤٥]. {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: ١٣٣]. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَالرُّسُلِ بِالسَّمْعِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ" ‫اهـ‬‫‪.‬‬

وقال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه ٱللَّٰه (ت: ٤٨١ ‫هـ‬) في كتابه "اعتقاد أهل السنة وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة":

"أول ما يجب على العبد معرفة ٱللَّٰه, لحديث معاذ لما قال له النبي صلى ٱللَّٰه عليه وسلم إنك تقدم على قوم أهل الكتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة ٱللَّٰه, فإذا عرفوا ٱللَّٰه سبحانه فأخبرهم أن ٱللَّٰه افرض عليهم.. الحديث رواه مسلم هكذا. ورواه البخاري. فاعلم أن معرفة ٱللَّٰه وعبادته والإيمان به إنما يجب ويسمع ويلزم بالبلاغ, ويحصل بالتعريف" ‫اهـ, نقله ابن تيمية في حاشية له [انظر: مجموع الفتاوى ٢ /٣, الهامش].

‫ولم ‬‫يفرقوا‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫بي‬‫ن ‬‫باب‬ ‫الصفات‬ ‫وباب‬ ‫توحيد‬ ‫العبادة‬, فتنبه‬‫‪.‬‬

ومما يشهد كذلك على أن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا بشروط هو مذهب أئمة السلف, أننا إذا رجعنا إلى موقفهم من القدرية, القائلين بأن العبد بمعصية يخلق فعل نفسه وأن ذلك لا يقع بمشيئة ٱللَّٰه, لوجدنا الكثير منهم يصفون قول القدرية بالشرك وبالكفر, وكفروا بعض أعيانهم, وقد روى ابن بطة العكبري في الإبانة الكبرى آتارا في ذلك عن مالك وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم, وفي مقابل ذلك نجد آثارا قد رواها الخطيب البغدادي في الكفاية في علوم الرواية التي توضح أن حكمهم عليهم بالكفر والشرك ليس على عمومه وإطلاقه, وذلك تحت بابين متتاليين, قال رحمه ٱللَّٰه:

"باب ما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم", وبعد أن حكى مذاهب أهل العلم في ذلك ونقل أقوالهم, ختم الباب بقوله: "وَالَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي تَجْوِيزِ الِاحْتِجَاجِ بِأَخْبَارِهِمُ مَا اشْتُهِرَ مِنْ قَبُولِ الصَّحَابَةِ أَخْبَارَ الْخَوَارِجِ وَشَهَادَاتِهِمْ, وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْفُسَّاقِ بِالتَّأْوِيلِ, ثُمَّ اسْتِمْرارِ عَمَلِ التَّابِعِينَ وَالْخَالِفِينَ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ, لِمَا رَأَوْا مِنْ تَحَرِّيهِمِ الصِّدْقَ وَتَعْظِيمِهِمِ الْكَذِبَ, وَحِفْظِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ, وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى أَهْلِ الرِّيَبِ وَالطَّرَائِقِ الْمَذْمُومَةِ, وَرِوَايَاتِهِمُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُخَالِفُ آرَاءَهُمْ, وَيَتَعَلَّقُ بِهَا مُخَالِفُوهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ, فَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَكَانَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إِلَى الْقَدَرِ وَالتَّشَيُّعِ, وَكَانَ عِكْرِمَةُ إِبَاضِيًّا, وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا, وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَسَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ, وَكَانُوا قَدَرِيَّةً ..... فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ يَتَّسِعُ ذِكْرُهُمْ, دَوَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا رِوَايَاتِهِمْ, وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارِهِمْ, فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ, وَهُوَ أَكْبَرُ الْحُجَجِ فِي هَذَا الْبَابِ, وَبِهِ يَقْوَى الظَّنُّ فِي مُقَارِبَةِ الصَّوَابِ".

وقال أيضا: "باب ذكر بعض المنقول عن أئمة أصحاب الحديث في جواز الرواية عن أهل الأهواء والبدع قد أسلفنا الحكاية عن أبي عبد ٱللَّٰه الشافعي في جواز قبول شهادة أهل الأهواء, غير صنف من الرافضة خاصة, ويحكى نحو ذلك عن أبي حنيفة إمام أصحاب الرأي وأبي يوسف القاضي" (أراد به ما ذكره في الباب الذي قبله قائلا: "وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى قَبُولِ أَخْبَارِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ, الَّذِينَ لَا يُعْرَفُ مِنْهُمُ اسْتِحْلَالُ الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةُ لِمَنْ وَافَقَهُمْ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَهَادَةٌ, وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ, لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ, وَحَكَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي"), ثم ذكر آثارا كثيرة باإسناده أهمها ما رواه عن علي بن المديني رحمه ٱللَّٰه: "لو تركت أهل البصرة لحال القدر, واو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي, - قال الخطيب: يعني التشيع-, خرجت الكتب", ثم قال الخطيب: "قوله: خرجت الكتب, يعني لذهب الحديث". والرواية عن القدرية موجودة في الصحيحين وغيرهما.

ومعلوم أن قبول الشافعي لشهادة أهل الأهواء عدا الرافضة, يدل على إسلامهم عنده, كما ذكر ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية.

والإجماع قائم بين المحدثين على اشتراط الإسلام لقبول رواية الراوي, وحكى الإجماع على ذلك السيوطي في تدريب الراوي والكثير من الأصوليين في كتب أصول الفقه, واتفاق المحدثين حجة كما قال أبو حاتم الرازي, أي في الصناعة الحديثية.

‫واعلم‬‫ أن‬ ‫القول‬ ‫بأن‬ ‫التكفير‬ ‫الم‬‫طلق‬‫ لا ‫يلزم‬ ‫منه‬ ‫تكفير‬ ‫المعين‬ ‫إلا ‫من‬ ‫تحققت‬ ‫فيه‬ ‫الشروط‬ ‫وانتفت‬ ‫عنه‬ ‫الموانع‪،‬‬‫ ليس‬ ‫إغلاقا‬ ‫لباب‬ ‫تكفير‬ ‫أهل‬ ‫البدع‬ ‫المكفرة‬‫‪،‬‬‫ فهذا‬ ‫لا‬ ‫يقو‬ ‫له ‬‫إلا ‫جاهل‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫كفر‬ ‫السلف‬ ‫أعيان‬‫ا‬‫ من‬ ‫الجهمية‬‫ والقدرية‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫محمول‬ ‫على‬ ‫أنهم‬ ‫رأوا‬ ‫أن‬ ‫مثلهم‬ ‫قد‬ ‫بلغتهم‬ ‫الحجة‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫في‬ ‫الجهمية‬ ‫أكثر‬ ‫مما‬ ‫هو‬ ‫في ‬‫القدرية‪،‬‬ ‫ولهذا‬ ‫لا‬ ‫تجد‬ ‫رواية‬ ‫وا‬‫حدة‬‫ عن‬ ‫جهمي‬ ‫بخلاف‬ ‫الرواية‬ ‫عن‬ ‫القدري‬‫ة ‬‫فهي‬ ‫كثيرة‪،‬‬ ‫ولعل‬ ‫هذا‬ ‫لضعف‬‫ شبهة‬ ‫الجهمية‬ ‫مقارنة‬ ‫بشبهة‬ ‫القدرية‪،‬‬ ‫وأما‬ ‫منازعة‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫اشتراط‬ ‫التبين‬ ‫زيادة‬ ‫على‬ ‫البيان‬ ‫لتكفير ‬‫أعيان‬ ‫الجهمية‬ ‫ونسبته‬ ‫ذلك‬ ‫للسلف‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫له‬ ‫وجه‬ ‫في‬ ‫العلم‪،‬‬ ‫وٱللَّٰه‬ ‫أعلم‬‫‪.‬‬

‫واعلم‬‫ أن‬ ‫من‬ ‫أعظم‬ ‫أخطاء‬ ‫الحدادية‬ ‫دعواهم‬ ‫اتباع‬ ‫الكتاب‬ ‫والسنة‬ ‫بفهم‬ ‫سلف‬ ‫األمة‬ ‫دون‬ ‫بيان‬ ‫لحدود‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫بحيث‬‫ لو‬ ‫أنه‬ ‫اختلف‬ ‫أحد‬ ‫معهم‬ ‫في‬ ‫الفهم‬ ‫عن‬ ‫سلف‬ ‫الأمة‪،‬‬ ‫لعجزوا‬ ‫عن‬ ‫بيان‬ ‫صواب‬ ‫ما‬ ‫فهموه‬ ‫عنه‬‫م‬‫‪،‬‬‫ حيث‬ ‫لا‬ ‫يحسنون‬‫ إلا ‫النقل‬ ‫دون‬ ‫بيان‬ ‫لوجه‬ ‫صحة‬ ‫فهمهم‬ ‫عنهم‬ ‫من‬ ‫جهة‬ ‫التأصيل‬‫‪،‬‬‫ ودون‬ ‫تمييز‬ ‫بين‬ ‫ما‬ ‫هو‬ ‫صريح‬ ‫من‬ ‫قو‬‫ل‬ ‫السلف‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫ما‬ ‫يسمى‬ ‫أصوليا‬ ‫من‬ ‫لدن‬ ‫الإمام‬ ‫الشافعي‬ ‫نص‬ ‫أو‬ ‫ظاهر‬ ‫لا ‫معارض‬ ‫له‪،‬‬ ‫وبين‬ ‫م‬‫ا ‬‫ليس‬ ‫بصريح‪،‬‬‫ و‬‫ما ‬‫ذلك‬ ‫إلا‬ ‫لعدم‬ ‫عنايتهم‬ ‫بأصول‬ ‫الفقه‬ ‫حق‬ ‫العناية‬,‬‬‫ ولذا‬ ‫ت‬‫جدهم‬‫ كثيرا‬ ‫ما‬ ‫يجعلون‬ ‫غير‬ ‫الصريح‬ ‫صريحا‪،‬‬‫ والأسوأ‬ ‫من‬ ‫هذا‬ ‫أنه‬‫م‬‫ جعلوا‬ ‫فهمهم‬ ‫هو‬ ‫عين‬ ‫فهم‬ ‫السلف‬‫‪،‬‬‫ وما‬ ‫هذا‬ ‫إلا‬ ‫لقصور‬ ‫علمهم‬ ‫بأصول‬ ‫الفقه‬ ‫من ‬‫جهة‬ ‫أعظم‬ ‫أبوابه‬‫‪:‬‬‫ الأدلة‬ ‫ودلالات‬ ‫الألفاظ‬‫‪،‬‬‫ فلا‬ ‫هم‬ ‫حرروا‬ ‫المراد‬ ‫من‬ ‫فهم‬ ‫السلف‬ ‫على‬ ‫ضوء‬ ‫قواعد‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫يتحاكموا‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫إذا‬ ‫اختلفوا‬ ‫حول‬ ‫ما‬ ‫الذي‬ ‫فهمه‬ ‫السلف‬‫‪،‬‬‫ ولا‬ ‫هم‬ ‫لهم‬ ‫عناية‬ ‫بمراتب‬ ‫دلالات ‬‫الألفاظ‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫يميزوا‬ ‫صريحها‬ ‫من‬ ‫غيره‪،‬‬ ‫وٱللَّٰه‬ ‫المستع‬‫ان‬‫‪،‬‬‫ ولهذا‬ ‫تجدهم‬ ‫يتجاسرون‬ ‫على‬ ‫رد‬ ‫بعض‬ ‫تقريرات ‬‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫من‬ ‫غير‬ ‫كبير‬ ‫حجة‬ ‫غير‬ ‫التمسك‬ ‫بظواهر‬ ‫لها‬ ‫ما‬ ‫يعارضها‪،‬‬ ‫كحال‬ ‫مسألتنا‬ ‫هذه‬‫‪.‬‬

‫واعلم‬‫ أن‬ ‫فهم‬ ‫ا‬لسلف ‫و‬‫فق‬‫ قواعد‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‬ ‫والعلم‬ ‫مرجعه‬ ‫إلى‬ ‫أربعة‬ ‫أمور‬‫‪:‬‬

‫الإجماع‪،‬‬‫ وقد‬ ‫نص‬ ‫على‬ ‫حجيته‬ ‫عمر‬ ‫وابن‬ ‫مسعود‬ ‫رضي‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫عنهما‬‫‪.‬‬

‫وما‬‫ الا ‫يُعلم‬ ‫فيه‬ ‫خلافا‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫كان‬ ‫أئمة‬ ‫السلف‬ ‫يحتجون‬ ‫به‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫أنهم‬ ‫في‬ ‫مسائل‬ ‫لا ‫يذكرون‬ ‫دليلا ‫سواه‪،‬‬ ‫كما‬ ‫فعل ‬‫مالك‬ ‫والأوزاعي‬ ‫والشافعي‬ ‫وأحمد‬‫‪.‬‬

‫وقول‬ ‫الصحابي‬ ‫الذي‬ ‫لا ‫مخالف‬ ‫له‬ ‫من‬ ‫الصحابة‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫نقل‬ ‫ابن‬ ‫أبي‬ ‫زيد‬ ‫القيرواني‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫الذب‬ ‫عن‬ ‫مذاهب‬‫ مالك‬ ‫أنه‬ ‫حجة‬ ‫باتفاق‬ ‫السلف‬‫‪.‬‬

‫وعدم‬‫ الخ‬روج‬‫ عن‬ ‫أقوالهم‬ ‫إذا‬ ‫اختلفوا‬ ‫بإحداث‬ ‫قول‬ ‫آخر‪،‬‬ ‫ذكر‬ ‫المنع‬ ‫من‬ ‫هذا‬ ‫كل‬ ‫من‬‫‪:‬‬‫ س‬عيد‬‫ بن‬ ‫المسيب‬ ‫وأحمد‬‫ بن‬ ‫حنبل‬ ‫وأبي‬ ‫حاتم‬ ‫الرازي‬ ‫وابن‬ ‫وضاح‬ ‫وابن‬ ‫عبد‬ ‫البر‬ ‫والخطيب‬ ‫البغدادي‬‫‪،‬‬‫ ونقل‬ ‫عليه‬ ‫اتفاق‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬‫ ابن‬ ‫أبي‬ ‫زيد‬ ‫القيرواني‬ ‫في‬ ‫الجامع‪،‬‬ ‫وقال‬ ‫الإمام‬ ‫أحمد‬ ‫بن‬ ‫حنبل‬‫‪:‬‬‫ "‬‫يلزم‬‫ من‬ ‫قال‬ ‫يخر‬‫ج ‬‫من‬ ‫أقاويلهم‬ ‫إذا‬ ‫اختلفوا‪،‬‬‫ أن‬ ‫يخرج‬ ‫من‬ ‫أقاويلهم‬ ‫إذا‬ ‫أجمعوا‬‫"‪.‬‬

‫وأما‬‫ قول‬ ‫الواحد‬ ‫من‬ ‫بعد‬ ‫الصحابة‬ ‫من‬ ‫التابعين‬ ‫فمن‬ ‫دونهم‪،‬‬ ‫فليس‬ ‫بحجة‬ ‫ملزمة‪،‬‬ ‫ولما‬ ‫نسب‬ ‫الأحناف‬ ‫للإمام‬ ‫أحمد‬‫ احتجاجه‬ ‫بقول‬ ‫التابعي‪،‬‬ ‫نفى‬ ‫ابن‬ ‫م‬فلح‬‫ وجود‬ ‫أحد‬ ‫من‬ ‫الأئمة‬ ‫قائل‬ ‫بهذا‪،‬‬ ‫وإنما‬ ‫هو‬ ‫دليل‬ ‫استئناس‬ ‫واعتضاد‬‫ لا ‫دليل‬ ‫اعتماد‬ ‫واحتجاج‬ ‫كما‬ ‫ذكر‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬‫‪.‬‬

‫واعلم ‬‫أن‬ ‫من‬ ‫أعظم‬ ‫وأهم‬ ‫الجوانب‬ ‫في‬ ‫مشروع‬ ‫شيخ‬ ‫الإسلام‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫رحمه‬ ٱللَّٰه‬ ‫في‬ ‫خدمة‬ ‫اعتقاد‬ ‫السلف‪،‬‬ ‫والتي‬ ‫غ‬‫ف‬‫ل‬‫ عنها‪،‬‬ ‫هو‬ ‫ربطه‬ ‫بين‬ ‫أصول‬ ‫اعتقادهم‬ ‫وأصول‬ ‫فقههم‬ ‫من‬ ‫جهة‬ ‫التقرير‪،‬‬ ‫وكذلك‬ ‫فعل‬ ‫من‬ ‫جهة‬ ‫الرد ‬‫على‬ ‫ما‬ ‫يخالف‬ ‫اعتقادهم‪،‬‬ ‫حيث‬ ‫بين‬ ‫فساد‬ ‫تقريرات‬ ‫أهل‬ ‫البدع‬ ‫في‬ ‫الأصلين‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‬ ‫وأصول‬ ‫الدين‬ ‫مع ‬‫بيان‬ ‫أثر‬ ‫كليهما‬ ‫على‬ ‫الآخر‪،‬‬ ‫فبناء‬ ‫الأصلين‬ ‫أحدهما‬ ‫على‬ ‫الآخر‬ ‫مما‬ ‫اعتنى‬ ‫به‬ ‫متكلمة‬ ‫المعتزلة‬ ‫والأشاعرة ‬‫والماتردية‬ ‫عناية‬ ‫كبير‬‫ة‪،‬‬‫ ولما‬ ‫قصر‬ ‫فيه‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫متأخري‬ ‫أهل‬ ‫السنة‪،‬‬ ‫ونسج‬ ‫بعضهم‬ ‫عند‬ ‫تأليفه‬‫ في‬ ‫علم‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‬ ‫على‬ ‫منوال‬ ‫أحد‬ ‫كتب‬ ‫المتكلمين‪،‬‬ ‫دخلت‬ ‫عليه‬ ‫أقوالهم‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫لا‬ ‫يشعر‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يزال‬ ‫الحال‬ ‫كذلك‬ ‫مع‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‪،‬‬ ‫حيث‬ ‫لا‬ ‫ينتبهون‬ ‫لأصل‬ ‫نشأة‬ ‫الأقوال‬ ‫وتا‬‫ريخها ‬‫ويكثر‬ ‫هذا‬ ‫في‬ ‫دقائق ‬‫المسائل‪،‬‬ ‫ولم‬ ‫يسلكوا‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫مسلك‬ ‫شيخ‬ ‫الإسلام‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫أجزل‬ ٱللَّٰه‬‬ ‫له‬ ‫المثوبة‬.‬‬

‫ون‬‫س‬‫أل ٱللَّٰه‬‬ ‫عز‬ ‫وج‬‫ل ‬‫أن‬ ‫يرينا‬ ‫الحق‬ ‫حقا‬ ‫ويرزقنا‬ ‫اتباعه‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫يرينا‬ ‫الباطل‬ ‫باطلا ‫ويرزقنا‬ ‫اجتنابه‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫يتوفنا ‬‫على‬ ‫الإسلام‬ ‫والسنة‬.‬‬

كتبه ولد الحاج محمد الإفريقي


عودة إلى الصفحة الرئيسية