بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

الجامع الأصول مسألة العذر بالجهل في الشرك

الفهرست

المقدمة

بسم ٱللَّٰه والصلاة والسلام على رسول ٱللَّٰه وعلى صحبه ومن والاة, أما بعد:

فإن تحرير الصواب في مسألة العذر بالجهل في الشرك يتم بتقرير أربع نقاط:

١ - تحرير محل النزاع

‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫هم‬ ‫أعيان‬ ‫أهل‬ ‫الغلو‬ ‫في‬ ‫المقابر‬ ‫ـ‬ ‫ممن‬ ‫ينتسب‬ للإسلام‬ ‫ـ‬ ‫إلى‬ ‫درجة‬ ‫الوقوع‬ ‫في‬ ‫الشرك الأكبر‪،‬‬ ‫مع‬ الإقرار‬ ‫بأن‬ ‫العبادة‬ ‫حق‬ ‫خالص‬ للَّٰه‬ ‫وحده‪،‬‬ ‫وإنكارهم‬ ‫أن‬ ‫ما‬ ‫هم‬ ‫واقعون‬ ‫فيه‬ ‫شرك‬‫ وصرف‬ ‫للعبادة‬ ‫لغير‬ ‫ٱللَّٰه‪،‬‬ ‫ممن‬ ‫لم‬ ‫يتمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫الدالة‬ ‫على‬ ‫كون‬ ‫ما‬ ‫هم‬‫ فيه‬ ‫من‬ ‫الشرك‬ الأكبر‫‪.‬‬

‫فجهلهم ‬‫متعلق‬ ‫بدخول‬ ‫بعض‬ الأعمال‬ ‫في‬ ‫مسمى‬ ‫العبادة‪،‬‬ ‫لا ‫باستحقاق‬ ‫ٱللَّٰه ‫للعبادة‬ ‫وحده‪،‬‬ ‫كما‬ ‫هو‬‫ حال‬ ‫مشركي‬ ‫العرب‬ ‫في‬ ‫الجاهلية.‬‬

‫فخرج‬‫ بذلك‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يقر‬ ‫بوجوب‬ ‫إفراد‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫بالعبادة‪،‬‬ ‫كالإسماعيلية‬‫ والنصيرية‬ ‫والدروز‪،‬‬ ‫وهؤلاء‬‫ كفار‬ ‫مرتدون‬ ‫على‬ ‫التعيين‪،‬‬ ‫لا ‫يعذرون‬ ‫بجهل‬ ‫ولا ‫تأويل‫‪.‬‬

‫وخرج ‬‫من‬ ‫تمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫فأعرض‬ ‫عنها‪،‬‬ ‫فهذا‬ لا‬ ‫يعذر‬ ‫بجهله‪،‬‬ ‫ويكفر‬ ‫على‬ ‫التعيين‬‫ بذات‬ ‫قوله‬ ‫الشركي‬ ‫أو‬ ‫فعله‬ ‫الشركي‪،‬‬ ‫ويبقى‬ ‫النظر‬ ‫في‬ ‫تحرير‬ ‫ضابط‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬‫‪.‬‬

‫وخرج ‬‫بذلك‬ ‫صورة‬ ‫سؤال‬ ‫الميت‬ ‫الدعاء‬ ‫لكونها‬ ‫من‬ ‫الشرك‬ ‫الأصغر‪،‬‬ ‫ولا ‫يعرف‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫خلاف ‬‫بين‬ ‫أهل‬ ‫العلم‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫ظهر‬ ‫قول‬ ‫لأحد‬ ‫متأخري‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫وألحق‬ ‫ذلك‬ ‫بالشرك‬ ‫الأكبر‪،‬‬ ‫وتبعه‬‫ بعض‬ ‫المعاصرين‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫العلم‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫قول‬ ‫شاذ‬ ‫لا ‫سلف‬ ‫لقائله‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫إلا ‫نسبتهم‬ ‫لابن‬ ‫تيمية‬‫ حكاية‬ الإجماع‬ ‫في‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وصري‬‫ح‬‫ أقواله‬ ‫بخلاف‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫حررت‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫مؤلف‬ [كتاب: الرد على كتاب تحرير قول ابن تيمية في حكم طلب الدعاء من الأموات غلطه على ابن تيمية].

‫هذا‬‫ وقد‬ ‫وقع‬ ‫إجمال‬ ‫واشتباه‬ ‫في‬ ‫المراد‬ ‫بمصطلح‬ ‫"‫العذر‬‫ بالجهل‫"‬‫ حيث‬ ‫استعمله‬ ‫خصوم‬ ‫علماء ‬‫الدعوة‬ ‫النجدية‬ ‫كابن‬ ‫جرجيس‬ ‫على‬ ‫معان‬ ‫فاسدة‬ ‫لا ‫تمت‬ ‫بصلة‬ ‫الستعمالات‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫له‬ ‫في ‬‫مختلف‬ ‫المكفرات‬ ‫كالشافعي‬ ‫وابن‬ ‫حزم‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫وغيرهم‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فمرادي‬ ‫منه‬ ‫عند‬ ‫توضيح ‬‫مختلف‬ ‫المذاهب‬ ‫فيما‬ ‫سيأتي‬ ‫هو‬ ‫اعتبار‬ ‫مانع‬ ‫الجهل‬ ‫الذي‬ ‫سببه‬ ‫عدم‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬‫ الرسالية‪،‬‬ ‫فخرج‬ ‫بذلك‬ ‫من‬ ‫كان‬ ‫سبب‬ ‫جهله‬ ‫الإعراض‪،‬‬ ‫وما‬ لا ‫مدخل‬ ‫للعذر‬ ‫بالجهل‬ ‫فيه‬ ‫من‬‫ المكفرات‪،‬‬ ‫مما‬ ‫تستلزم‬ ‫لزوما‬ ‫صريحا‬ ‫نقض‬ ‫أصل‬ ‫التصديق‬ ‫أو‬ ‫المحبة‬ ‫أو‬ ‫التعظيم‬ ‫أو‬ ‫القبول‬ ‫أو‬ ‫الانقياد‪،‬‬ ‫كمتابعة‬ ‫مدعي‬ ‫النبوة‬ ‫وسب‬ ٱللَّٰه ‫عز‬ ‫وج‬‫ل ‬‫والاستهزاء‬ ‫الصريح‬ ‫بما‬ ‫هو‬ ‫معلوم ‬‫من‬ ‫دينه‫‪.‬‬

٢ - مذاهب أهل العلم

‫اختلف ‬‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫حول‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫قديما‬ ‫وحديثا‪،‬‬ ‫ويرجع‬ ‫اختلافهم‬ ‫إلى‬ ‫إثبات‬ ‫اسم‬ ‫الإسلام‬ ‫لهم‬ ‫من ‬‫عدمه‪،‬‬ ‫وإلى‬ ‫ضابط‬ ‫قيام‬ ‫الحجة‪،‬‬ ‫وهم‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫على‬ ‫أربعة‬ ‫مذاهب‫‪:‬‬

المذهب الأول:

‫أنهم‬‫ كفار‬ ‫على‬ ‫التعيين‬ ‫لكون‬ ‫الحجة‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫الباب‬ ‫تبلغ‬ ‫بمجرد‬ ‫وجود‬ ‫القرآن‬ ‫بين‬ ‫ظهرانيهم‬ ‫وسماعهم‬‫ بالرسول‬ ﷺ‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫مذهب‬ ‫الصنعاني‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫أول‬ ‫قوليه‬ ‫ـ‬ ‫والشوكاني‬ ‫وأبابطين‬ ‫وعبد‬ ‫الرحمن‬‫ بن‬ ‫حسن‬ ‫وإسحاق‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‬ ‫و‬‫حامد‬‫ الفقي‬ ‫وابن‬ ‫إبراهيم‬ ‫وابن‬ ‫باز‬ ‫والجبرين‬ ‫والفوزان ‬‫والراجحي‬ ‫والطريفي‬ ‫وناصر‬ ‫الفهد‬ ‫وأحمد‬ ‫الخالدي‬ ‫وخالد‬ ‫المرضي‬ ‫الغامدي‬‫‪.‬‬

المذهب الثاني:

‫أصحابه ‬‫يزيدون‬ ‫على‬ ‫قول‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الأول‫‪:‬‬‫ الاحتجاج‬ ‫بثبوت‬ ‫حجية‬ ‫الميثاق‬ ‫ـ‬ ‫وهي‬ ‫حجة‬‫ فطرية‬ ‫عقلية‬ ‫عندهم‬ ‫ـ‪،‬‬ ‫ويبنون‬ ‫عليها‬ ‫تكفيرهم‬ ‫ع‬‫ينا‬‫ ولو‬ ‫لم‬ ‫تبلغهم‬ ‫الحجة‬ ‫الرسالية‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫مذهب ‬‫عبد‬ ‫المجيد‬ ‫الشاذلي‬ ‫وصاحب‬ ‫"الجواب‬‫ المفيد‬ ‫في‬ ‫حكم‬ ‫تارك‬ ‫التوحيد‫"‬‫ ومدحت‬ ‫الفراج‬‫‪.‬‬

المذهب الثالث:

‫أن‬‫ حكم‬ ‫المعين‬ ‫مشرك‬ ‫لا‬ ‫مسلم‬ ‫ولا ‫كافر‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫ظاهر‬ ‫قول‬ ‫محمد ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الوهاب‬ ‫وصرح‬ ‫به‬ ‫ابناه ‬‫عبد‬ ٱللَّٰه‬ ‫وحسين‬ ‫وتلميذاه‬ ‫حمد‬ ‫بن‬ ‫ناصر‬ ‫ب‬‫ن ‬‫معمر‬ ‫وعبد‬ ‫العزيز‬ ‫العنقري‪،‬‬ ‫وتبعهم‬ ‫عبد‬ ‫اللطيف‬‫ بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫المعاصرين‬ ‫حمود‬ ‫بن‬ ‫عقلاء‬ ‫الشعيبي‬ ‫وعلي‬ ‫الخضير‫‪.‬‬

المذهب الرابع:

‫أنه ‬‫مسلم‬ ‫ضال‪،‬‬ ‫ولا ‫يحكم‬ ‫على‬ ‫عينه‬ ‫بالتكفير‬ ‫لوجود‬ ‫المانع‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫فرق‬ ‫بين‬ ‫الشرك‬ ‫وسائر‬ ‫المكفرات‬‫ في‬ ‫اشتراط‬ ‫تحقق‬ ‫شروط‬ ‫التكفير‬ ‫وانتفاء‬ ‫موانعه‬ ‫‪،‬‬‫وهو‬ ‫مذهب‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫وابن‬ ‫العربي ‬‫والذهبي‬ ‫والقاسمي‬ ‫والمعلمي‬ ‫وابن‬ ‫باديس‬ ‫والبشير‬ ‫الإبراهيمي‬ ‫والعفيفي‬ ‫والسعدي‬ ‫والعثيمين‬‫ والبسام‬ ‫والعلوان‬‫‪.‬‬

‫وهذا‬‫ يدل‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫حكاية‬ ‫الإجماع‬ ‫بالإعذار‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫كما‬ ‫ورد‬ ‫عن‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫في‬ ‫الفصل‬ ‫أو‬ ‫عدمه ‬‫كما‬ ‫ورد‬ ‫عن‬ ‫القرافي‬ ‫وإسحاق‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‬ ‫لا‬ ‫يصح‪،‬‬ ‫وصرح‬ ‫بوجود‬ ‫الخلاف‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬‫ في‬ ‫فتواه‬ ‫في‬ ‫رافضة‬ ‫زمانه‪،‬‬ ‫حيث‬ ‫وصفهم‬ ‫فيها‬ ‫بشرك‬ ‫عبادة‬ ‫الأضرحة‪،‬‬ ‫ولما‬ ‫جاء‬ ‫إلى‬ ‫تكفير ‬‫المعين‬ ‫وخلوده‬ ‫في‬ ‫النار‪،‬‬ ‫حكى‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫خلافا‬ ‫مشهورا‫‪.‬‬

‫وأما‬‫ ما‬ ‫نسبه‬ ‫بعض‬ ‫المعاصرين‬ ‫لأبابطين‬ ‫من‬ ‫حكاية‬ ‫الإجماع‬ ‫على‬ ‫عدم‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‪،‬‬ ‫فسوء‬ ‫فهم‬‫ لكلامه‫‪،‬ ‫حيث‬ ‫نسب‬ ‫مذهبه‬ ‫للجمهور‪،‬‬ ‫وإنما‬ ‫الذي‬ ‫حكى‬ ‫عليه‬ ‫الإجماع‬ ‫هو‬ ‫عدم‬ ‫اشتراط‬ ‫العناد ‬‫لتكفير‬ ‫المعين‬ ‫في‬ ‫الشرك‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫حق‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫بينت‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كتاب‬ كشف الإلتباس عن مسألة العذر بالجهل في الشرك, ‫تحرير‬ ‫مذهب‬ ‫شيخ‬ الإسلام ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وعلماء‬‫ الدوعة‬ ‫النجدية‬ ‫في‬ ‫مسألة‬ ‫ا‬لعذر ‬‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫شرك‬ ‫العبادة‪،‬‬ ‫قراءة‬ ‫تحليلية‬ ‫لأقوال‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬‫‫‪ ،‬‬‫واختصرته‬ ‫إلى‬ "كشف الإلتباس عن مسألة العذر بالجهل في الشرك."

‫واعلم ‬‫أن‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫أصحاب‬ ‫هذه‬ ‫المذاهب‬ ‫ممن‬ ‫جاء‬ ‫من‬ ‫بعد‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫يزعم‬ ‫أنه‬ ‫على‬ ‫مذهبه‬‫!‬‫!‬‫ إلا ‫أبابطين‬ ‫فيصرح‬ ‫بمخالفته‬‫‪.‬‬

‫وخطأ‬‫ من‬ ‫أخطأ‬ ‫على‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫يرجع‬ ‫إلى‬ ‫عدم‬ ‫تفسير‬ ‫كلامه‬ ‫وفق‬ ‫أصوله‪،‬‬ ‫والغفلة‬ ‫عن‬ ‫بعض‬ ‫أقواله‬‫ وأصوله‪،‬‬ ‫والظن‬ ‫أن‬ ‫مذهبه‬ ‫ومذهب‬ ‫علماء‬ ‫الدعوة‬ ‫النجدية‬ ‫واحد‪،‬‬ ‫فيفسرون‬ ‫أقواله‬ ‫على‬ ‫ضوئها‪ ،‬‬‫وهذه‬ ‫طريقة‬ ‫غير‬ ‫سديدة‪،‬‬ ‫أيا‬ ‫كان‬ ‫مذهبه‬‫‪.‬‬

‫وقد‬‫ كتبت‬ ‫عصارة‬ ‫في‬ ‫تحرير‬ ‫مذهبه‬ ‫رحمه‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫في‬ ‫مقالات‬ ‫جمعتها‬ ‫تحت‬ ‫عنوان‬ ‫"سلسل‬‫ة‬‫ رفع‬ ‫الغشاوة‬‫"‬ [ملحقة بكشف الالتباس, انظر: ص ٥٥٧-٥٥٨].

‫هذا‬‫ فيما‬ ‫يتعلق‬ ‫بالاسم‬ ‫وأما‬ ‫الحكم‪،‬‬ ‫ويتضمن‬ ‫الحكم‬ ‫على‬ ‫المعين‬ ‫بالوعيد‬ ‫في‬ ‫الآخرة‪،‬‬ ‫وفق‬ ‫اصطلاح‬‫ أهل‬ ‫العلم‪،‬‬ ‫أي‬ ‫إن‬ ‫كان‬ ‫يخلد‬ ‫في‬ ‫نار‬ ‫جهنم‪،‬‬ ‫فال‬ ‫يقول‬ ‫بإثباته‬ ‫إلا ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الأول ‬‫وبعض‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثاني‪،‬‬ ‫ويصرح‬ ‫بنفيه‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثالث‬ ‫والرابع‬ ‫وبعض ‬‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثاني‬‫‪.‬‬

٣ - أصول المسألة وسبب الاختلاف

‫وهذه‬‫ المسألة‬ ‫متفرعة‬ ‫على‬ ‫أصول‬ ‫عنها‬ ‫نشأ‬ ‫الخلاف‪،‬‬ ‫منها‬ ‫ما‬ ‫هو‬ ‫متعلق‬ ‫بأصول‬ ‫الاعتقاد‬ ‫ومنها‬‫ما‬ ‫هو‬ ‫متعلق‬ ‫بأصول‬ ‫الفقه‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫بحث‬ ‫من‬ ‫طلبة‬ ‫العلم‬ ‫في‬ ‫هذه‬ ‫المسألة‬ ‫بعيدا ‬‫عن‬ ‫أصولها‬‫ حرم‬ ‫الوصول‪،‬‬ ‫وهي‬ ‫س‬‫ت‬‫ة‬‫‪ ‫ و‬س‬‫أعرض ‬‫أغلبها‬على‬ ‫طريقة‬ ‫السؤال‬‫‪:‬‬

‫‫أ‬‫‪-‬‬‫ التكليف‬ ‫بالتوحيد‬ ‫هل‬ ‫هو‬ ‫واقع‬ ‫بحجة‬ ‫السمع‬ ‫فقط‬ ‫أم‬ ‫كذلك‬ ‫بحجة‬ ‫العقل‬ ‫قبل‬ ‫ورود‬ ‫السمع؟‬

‫ب‬‫‪-‬‬‫ هل‬ ‫يعذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫أصول‬ ‫الدين؟‬

‫ت‬‫‪-‬‬‫ دلالة‬ ‫العام‬ ‫على‬ ‫الأحوال‫‪:‬‬‫ هل‬ ‫تستلزم‬ ‫العموم‬ ‫فيها‬ ‫أم‬ ‫أنها‬ ‫مطلقة‬ ‫فيها؟‬

‫ث‬‫‪-‬‬‫ مسألة‬ ‫التحسين‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫القول‬ ‫بإثبات‬ ‫اسم‬ ‫المشرك‬ ‫قبل‬ ‫بلوغ‬ ‫الحجة‬ ‫فرع‬‫عنها‬‫‪.‬‬

‫ج‬‫‪-‬‬‫ مسألة‬ ‫الاشتقاق‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫القول‬ ‫بأن‬ ‫من‬ ‫تلبس‬ ‫بالشرك‬ ‫سمي‬ ‫مشركا‬ ‫فرع‬ ‫عنها‬‫‪.‬‬

‫ح‬‫‪-‬‬‫ هل‬ ‫ثمة‬ ‫صنف‬ ‫آخر‬ ‫للناس‬ ‫غير‬ ‫الأصناف‬ ‫الثلاثة‫‪:‬‬‫ مؤمن‬ ‫وكافر‬ ‫ومنافق؟‬

‫وبيان‬‫ ذلك:‬‬

أ - التكليف بالتوحيد هل هو واقع بحجة السمع فقط أم كذلك بحجة العقل قبل ورود السمع؟

‫ومعنى‬‫ ذلك‫‪:‬‬‫ هل‬ ‫الحكم‬ ‫التكليفي‬ ‫بالإيجاب‬ ‫والتحريم‬ ‫المتعلق‬ ‫بمسائل‬ ‫التوحيد‬ ‫والشرك‬ ‫موقوف‬ ‫على‬‫ دليل‬ ‫الوحي‪،‬‬ ‫جملة‬ ‫وتفصيلا؟‬ ‫أم‬ ‫يكون‬ ‫ذلك‬ ‫أيضا‬ ‫بحجة‬ ‫العقل‬ ‫قبل‬ ‫نزول‬ ‫الوحي؟‬

‫ويتفرع ‬‫على‬ ‫هذا‬ ‫الاختلاف‬ ‫حول‬ ‫حكم‬ ‫محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يتمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‬‫ التي‬ ‫يكفر‬ ‫مخالفها‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫الق‬بلة ‬‫(‬‫أي‬‫ من‬ ‫ثبت‬ ‫له‬ ‫الإسلام‬ ‫الظاهر‬ ‫وفق‬ ‫المواصفات‬ ‫المسطرة ‬‫في‬ ‫كتب‬ ‫الفقه‫)‬‫ غير‬ ‫مكلف‬ ‫بتلك‬ ‫المسائل‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫لا ‫تكليف‬ ‫إلا ‫بالوحي‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫كان‬ ‫كذلك‬ ‫لم ‬‫تثبت‬ ‫في‬ ‫حقه‬ ‫الأسماء‬ ‫الشرعية‬ ‫من‬ ‫كافر‬ ‫ومشرك‪،‬‬ ‫لأن‬ ‫حقيقة‬ ‫التكفير‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫هو‬ ‫حكم‬ ‫شرعي ‬‫ـ‬ ‫هو‬ ‫مخالفة‬ ‫الوحي‬ ‫فيما‬ ‫تكون‬ ‫مخالفته‬ ‫كفرا‬ ‫وشر‬كا‬‫‪.‬‬

‫وأما ‬‫على‬ ‫القول‬ ‫بأن‬ ‫حجة‬ ‫العقل‬ ‫يقع‬ ‫بها‬ ‫التكليف‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الوحي‪،‬‬ ‫فيترتب‬ ‫عليه‬ ‫التكليف‬ ‫بما‬ ‫سبق‪،‬‬‫ ويثبت‬ ‫في‬ ‫حق‬ ‫المخالف‬ ‫اسمي‬ ‫الكافر‬ ‫والمشرك‬‫‪.‬‬

‫والقول‬‫ بأنه‬ ‫لا ‫تكليف‬ ‫إلا ‫بوحي‪،‬‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫مسائل‬ ‫التوحيد‬ ‫والشرك‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫الإيجاب‬ ‫والتحريم‬ ‫لا‬‫ يكون‬ ‫إلا ‫بالوحي‪،‬‬ ‫هو‬ ‫قول‬ ‫أهل‬ ‫السن‬‫ة‪،‬‬‫ وحكى‬ ‫عليه‬ ‫اتفاق‬ ‫السلف‬ ‫كل‬ ‫من‬ ‫السجزي‬ ‫واللالكائي ‬‫والهروي‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬‫‪.‬‬

‫والقول‬‫ بأن‬ ‫التكليف‬ ‫في‬ ‫بعض‬ ‫المسائل‬ ‫ـ‬ ‫ومنها‬ ‫التوحيد‬ ‫ـ‬ ‫يقع‬ ‫بالعقل‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الوحي‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫الإيجاب‬‫ والتحريم‬ ‫يكون‬ ‫فيها‬ ‫بالعقل‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫هو‬ ‫صريح‬ ‫قول‬ ‫المعتزلة‬ ‫ومسطر‬ ‫في‬ ‫كتبهم‪،‬‬ ‫ومما‬ ‫بقي‬‫من‬ ‫الاعتزال‬ ‫في‬ ‫عقي‬دة ‬‫الأشاعرة‪،‬‬ ‫وزل ‬‫بعض‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫وتبعوهم‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫كما‬ ‫نبه‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬‫وابن‬ ‫تيمية‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫بينت‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫مقالة‬‬‫ [اتفاق السلف على أن التكليف الشرعي بإيجاب معرفة ‫‫ٱللَّٰه وعبادته حاصل بالسمع لا بالعقل].

‫وأما‬‫ عن‬ ‫آية‬ ‫حجية‬ ‫الميثاق‬ ‫[‬الأعراف:١٧٢-١٧٣] فالرتباطها‬ ‫بهذا‬ ‫الأصل‬ ‫العقدي‬ ‫نجد‬ ‫من‬ ‫فسرها‬‫ ممن‬ ‫سبق‬ ‫يفسرها‬ ‫على‬ ‫ضوء‬ ‫أصله‬ ‫العقدي‪،‬‬ ‫ولذا‬ ‫حملها‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫على‬ ‫أصلهم‬‫‪:‬‬

‫فنجد ‬‫ابن‬ ‫قتيبة‬ ‫رحمه‬ ‫‫ٱللَّٰه‬ ‫ـ‬ ‫خطيب‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫"‫تأويل‬‫ مختلف‬ ‫الحديث" ‬‫قال‬ ‫عنها‫‪:‬‬ "وليس الإقرار الأول مما يقع به حكم أو عليه ثواب" ص ٢٠٠-٢٠١, ‫ونجد‬ ‫ابن‬ ‫القيم‬ ‫في‬ ‫كتابه ‬‫"الروح‬‫" ‬‫يفسرها‬ ‫على‬ ‫معنى‫‪:‬‬‫ الفطرة‬ ‫وتذكير‬ ‫الرسل‬ ‫بما‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫واستدل‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫بعشرة‬ ‫أوجه‪،‬‬‫ وكلامه‬ ‫في‬ ‫كتاب‬ ‫الروح‬ ‫يدفع‬ ‫تحريف‬ ‫صاحب‬ ‫"‬الجواب ‬‫المفيد‬ ‫في‬ ‫حكم‬ ‫تارك‬ ‫التوحيد"‬ ‫لمذهبه‪،‬‬‫ ونجد‬ ‫الشنقيطي‬‫ يصرح‬ ‫في‬ ‫أضواء‬ ‫البيان‬ ‫في‬ ‫سياق‬ ‫تفسيره‬ ‫لآلية‬ ‫بإبطال‬ ‫حجية‬ ‫العقل‬ ‫استقالال‬‫ عن‬ ‫الوحي.‬‬

‫ولم ا‬‫تعلق‬ ‫بعض‬ ‫المعاصرين‬ ‫وأولهم‬ ‫صاحب‬ ‫"‫الجواب‬‫ المفيد‬"‬‫ ـ‬ ‫وتبعه‬ ‫من‬ ‫تبعه‬ ‫ـ‬ ‫بقول‬ ‫من‬ ‫زل‬‫ من‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫وقال‬ ‫بقول‬ ‫المعتزلة‬ ‫بالتكليف‬ ‫في‬ ‫التوحيد‬ ‫بالعقل‪،‬‬ ‫فسر‬ ‫آية‬ ‫حجية‬ ‫الميثاق‬ ‫على‬‫ضوء‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وجعل‬ ‫الفطرة‬ ‫والعقل‬ ‫حجة‬ ‫مستقلة‬ ‫عن‬ ‫الوحي‬ ‫في‬ ‫التوحيد؟‬ ‫!!‬

‫وأما‬‫ عن‬ ‫الاختلاف‬ ‫في‬ ‫ضابط‬ ‫الحجة‬ ‫الرسالية‪،‬‬ ‫أي‬ ‫بأي‬ ‫شيء‬ ‫تقوم‫‪:‬‬

‫فاعلم‬‫ أن‬ ‫قول‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثالث‬ ‫موافق‬ ‫لقول‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الرابع‪،‬‬ ‫ومخالف‬ ‫لقول‬ ‫أصحاب‬‫ المذهب‬ ‫الأول‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫يعني‬ ‫أن‬ ‫قول‬ ‫متقدمي‬ ‫علماء‬ ‫الدعوة‬ ‫النجدية‬ ‫مختلف‬ ‫في‬ ‫الجملة‬ ‫عن‬‫قول‬ ‫متوسطيهم‬ ‫ومتأخريهم‪،‬‬ ‫وليس‬ ‫هذه‬ ‫المسألة‬ ‫الوحيدة‬ ‫التي‬ ‫اختلفت‬ ‫فيها‬ ‫أقوالهم‪،‬‬ ‫وق‫د‬ ‫جمعت ‬‫العديد‬ ‫منها‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‫‪.‬‬

‫وأن‬‫ قول‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الأول‬ ‫مردود‪،‬‬ ‫فقولهم‬ ‫يتنزل‬ ‫على‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يثبت‬ ‫له‬ ‫حكم‬ الإسلام‬ ‫الظاهر‬‫ من‬ ‫الكفار‬ ‫الأصليين‪،‬‬ ‫وهؤلاء‬ ‫منكرون‬ ‫الستحقاق‬ ‫‫‫ٱللَّٰه‬ ‫للعبادة‬ ‫وحده‪،‬‬ ‫ولكون‬ محمد ‫بن‬ ‫عبد ‫‫‫ٱللَّٰه‬ ‫رسول‬ ‫‫‫ٱللَّٰه‬ ‫للإنس‬ ‫كافة‬ ‫عربهم‬ ‫وعجمهم‬ ‫وخاتم‬ ‫النبيين‪،‬‬ ‫بخالف‬‫ محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫وضلال‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫متعلق‬ ‫بأفراد‬ ‫العبادة‪،‬‬ ‫ما‬ ‫الذي‬ ‫يدخل‬ ‫منها‬ ‫في‬ ‫مسمى‬ ‫العبادة‬ ‫وما‬ ‫الذي‬ ‫لا ‫يدخل‪،‬‬ ‫وتعلم ‬‫جميع‬ ‫أفراد‬ ‫العبادة‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫الأصل‬ ‫ـ‬ ‫ليس‬ ‫فرض‬ ‫عين‬ ‫على‬ ‫كل‬ ‫مسلم‪،‬‬ ‫فأمكن‬ ‫دخول‬ ‫الجهل‬‫ في‬ ‫هذا‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫يحتاج‬ ‫لبيان‬ ‫العلماء‪،‬‬ ‫فإن‬ ‫‫‫ٱللَّٰه‬ ‫عز‬ ‫وجل‬ ‫كما‬ ‫قال‬ ‫عن‬ ‫كتاب‬‫ه‬ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} ولروسله ﷺ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} قد قال للعلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}, ‫وكما‬ ‫يحتاج ‬‫العجمي‬ ‫إلى‬ ‫ترجمان‬ ‫ليفهم‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫القرآن‪،‬‬ ‫فالعربي‬ ‫الذي‬ ‫دخلت‬ ‫على‬ ‫لسانه‬ ‫العجمة‬ ‫يحتاج‬‫ إلى‬ ‫بيان‪،‬‬ ‫وخلفاء‬ ‫الرسول‬ ﷺ‬ ‫في‬ ‫البيان‬ ‫هم‬ ‫العلماء‪،‬‬ ‫قال‬ ‫ﷺ‫‪:‬‬‫ "‫العلماء‬‫ ورثة‬ ‫الأنبياء"‬‫‪،‬‬ ‫وتعريف ‬‫جزئي‬ ‫الجملة‬ ‫يفيد‬ ‫الحصر‪،‬‬ ‫فانحصر‬ ‫البيان‬ ‫الذي‬ ‫تقوم‬ ‫به‬ ‫الحجة‬ ‫فيهم‪،‬‬ ‫وقول‬ ‫علي‬ ‫رضي ‬‫‫‫‫ٱللَّٰه ‫عنه‫‪:‬‬‫ "‫لن‬‫تخلو‬ ‫الأرض‬ ‫من‬ ‫قائم‬ للَّٰه‬ ‫بحجته‫" ‬‫يتضمن‬ ‫إشارة‬ ‫لهذا‬ ‫المعنى‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫صرح‬ ‫به‬‫عبد‬ ‫اللطيف‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‪،‬‬ ‫ولا ‫يخرج‬ ‫عن‬ ‫هذا‬ ‫إلا ‫من‬ ‫أدرك‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫القرآن‬ ‫من‬ ‫معاني‬ ‫بمفرده‬‫‪.‬‬

‫واعلم ‬‫أن‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫غير‬ ‫محصور‬ ‫في‬ ‫المقيم‬ ‫ببادية‬ ‫بعيدة‬ ‫وحديث‬ ‫العهد‬ ‫بالإسلام,‬ ‫كما‬ ‫هو‬ ‫قول ‬‫أبي‬ ‫العلا ‫الراشد‬ ‫ـ‬ ‫وله‬ ‫ميول‬ ‫إلى‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثاني‬ ‫ـ‬ ‫وينسب‬ ‫ذلك‬ ‫لابن‬ ‫تيمية‬ ‫وعلماء ‬‫الدعوة‬ ‫النجدية‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫لا‬ ‫يقول‬ ‫به‬ ‫أحد‬ ‫من‬ ‫هم‪،‬‬‫ فإن‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫طرد‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كل‬ ‫بلد‬ ‫جهل‪،‬‬ ‫مما‬‫ ذكره‬ ‫المقيمين‬ ‫في‬ ‫الأمصار‬ ‫الكبيرة‬ ‫التي‬ ‫فشى‬ ‫فيها‬ ‫الجهل‬ ‫بعد‬ ‫تسلط‬ ‫الفاطميين‬ ‫والتتار‬ ‫عليها‬‫ لمدد‬ ‫طويلة‪،‬‬ ‫وضابطها‬ ‫ما‬ ‫كان‬ ‫منها‬ ‫مظنة‬ ‫لفشو‬ ‫الجهل‪،‬‬ ‫وإليه‬ ‫أشار‬ ‫السيوطي‪،‬‬ ‫وصرح‬ ‫عبد ‬‫اللطيف‬ ‫أن‬ ‫المقيم‬ ‫ببادية‬ ‫بعيدة‬ ‫وحديث‬ ‫العهد‬ ‫بالإسلام ‫هي‬ ‫إلا‬ ‫أمثلة‪،‬‬ ‫ويشهد‬ ‫لهذا‬ ‫أن‬ ‫بعض ‬‫الفقهاء‬ ‫يضيف‬ ‫إليهما‬ ‫المقيم‬ ‫بدار‬ ‫حرب‫‪.‬‬

‫وأما‬‫ عن‬ ‫ضابط‬ ‫شيوع‬ ‫الحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫في‬ ‫مكان‬ ‫ما‪،‬‬ ‫التي‬ ‫يُحكم‬ ‫بوجوده‬ ‫بالتمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬‫ بها‪،‬‬ ‫والتي‬ ‫يكفر‬ ‫عندها‬ ‫المعرض‬ ‫بمخالفتها‬ ‫ولو‬ ‫بقي‬ ‫على‬ ‫جهله‬ ‫لتقصيره‪،‬‬ ‫فقد‬ ‫أوضحته‬‫ من‬ ‫كلام‬ ‫أهل‬ ‫الع‬‫لم‬‫ من‬ ‫مفسرين‬ ‫وفقهاء‬ ‫في‬ ‫كتاب‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬‫‪.‬‬

٣ - أصول المسألة وسبب الاختلاف

‫أصل‬ ‫القول‬ ‫بنفي‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫أصول‬ ‫الدين‬ ‫نشأ‬ ‫على‬ ‫يدي‬ ‫المعتزلة‬ ‫ثم‬ ‫تسرب‬ ‫إلى‬ ‫الكثير‬ ‫من‬‫ فقهاء‬ ‫المذاهب‬ ‫الأربعة‬ ‫ممن‬ ‫لم‬ ‫ينتبه‬ ‫إلى‬ ‫أصل‬ ‫هذا‬ ‫القول‪،‬‬ ‫كما‬ ‫نبه‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬‫‪.‬‬

‫حيث‬‫ اعتبر‬ ‫المعتزلة‬ ‫إ‬‫ثبات‬ ‫وجود‬ ‫الصانع‬ ‫ـ‬ ‫وكذا‬ ‫ما‬ ‫يجب‬ ‫له‬ ‫من‬ ‫الصفات‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫النظري‬ ‫لا‬‫ الضروري‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫لعدم‬ ‫إثباتهم‬ ‫لحقيقة‬ ‫الفطرة‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫ثَم‬ ‫أوجبوا‬ ‫النظر‬ ‫العقلي‬ ‫الكلامي‪،‬‬ ‫وجعلوا‬‫ أدلته‬ ‫قطعية‬ ‫يقينية‪،‬‬ ‫لا‬ ‫يعذر‬ ‫الجاهل‬ ‫بجهله‬ ‫بها‬ ‫ولا‬ ‫المخطئ‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫ورتبوا‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫عدم‬‫ تصحيح‬ ‫إيمان‬ ‫المقلد‪،‬‬ ‫ومعن‬‫اه‬ ‫أصحاب‬ ‫الإيمان‬ ‫الفطري‬ ‫من‬ ‫عوام‬ ‫المسلمين‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫القول‬ ‫من ‬‫بقايا‬ ‫الإعتزال‬ ‫في‬ ‫عقيدة‬ ‫أبي‬ ‫الحسن‬ ‫الأشعري‪،‬‬ ‫كما‬ ‫صرح‬ ‫به‬ ‫السمناني‬ ‫أحد‬ ‫أصحاب‬ ‫الباقلاني‪،‬‬‫ وبناء‬ ‫عليه‬ ‫صرح‬ ‫الجويني‬ ‫والسنوني‬ ‫بكفر‬ ‫عوام‬ ‫المسلمين‬ ‫ممن‬ ‫لا ‫معرفة‬ ‫لهم‬ ‫بالأدلة ‬‫الكلامية‬ ‫بوجود‬ ‫الرب‬ ‫سبحانه‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫هو‬ ‫أصل‬ ‫قول‬ ‫من‬ ‫قال‬ ‫من‬ ‫متكلمة‬ ‫الأصوليين‬ ‫بنفي ‬‫الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫مطلقا‬ ‫في‬ ‫أصول‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫جملة‬ ‫ذلك‬ ‫قول‬ ‫القرافي‬ ‫في‬ ‫شرح‬ ‫تنقيح‬ ‫الفصول‬‫‪:‬‬‫ "ولذلك‬‫ لم‬ ‫يعذره‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫أصول‬ ‫الدين‬ ‫إجماعا‫"‬‫ اهـ‪،‬‬ ‫الذي‬ ‫تعلق‬ ‫به‬ ‫بعض‬ ‫المعاصرين‬‫ من‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫في‬ ‫حكاية‬ ‫الإجماع‬ ‫غفلة‬ ‫منهم‬ ‫عن‬ ‫الجذور‬ ‫الكلا‫مية ‬‫لهذا‬ ‫القول‪،‬‬ ‫ونحوه‬‫ قوله‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫الفروق: "إن‬ ‫التكليف‬ ‫بالتوحيد‬ ‫وعدم‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫فيه‬ ‫من‬ ‫باب‬ ‫تكليف‬ ‫ما ‬‫لا ‫يطاق‫"‬‫ اهـ‬ ‫!!‬

‫وأما‬‫ أهل‬ ‫السنة‬ ‫وأئمة‬ ‫السلف‬ ‫فال‬ ‫يقولون‬ ‫بهذا‪،‬‬ ‫ويثبتون‬ ‫الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫أصول‬ ‫الدين‬ ‫كما‬ ‫يثبتونه‬‫ في‬ ‫فروعه‪،‬‬ ‫ولهم‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫قيود‬ ‫وضوابط‪،‬‬ ‫وشواهد‬ ‫هذا‬ ‫من‬ ‫أقوالهم‬ ‫وتصرفاتهم‬ ‫كثيرة‪،‬‬ ‫وممن‬‫ تتبع‬ ‫الكثير‬ ‫منها‬ ‫وكتب‬ ‫في‬ ‫إثبات‬ ‫هذا‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫في‬ ‫الفصل‪،‬‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫الكيلانية‬ ‫والمارد‬‫ينية‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫نبها‬ ‫على‬ ‫الجذور‬ ‫الكلامية‬ ‫لقول‬ ‫المخالف‪،‬‬ ‫وثمة‬ ‫أقوال‬ ‫أخرى‬ ‫ألئمة‬ ‫أهل‬ ‫السنة ‬‫والحديث‬ ‫لم‬ ‫يذكرانها‪،‬‬ ‫جمعتها‬ ‫في‬ ‫مقالة‬ ‫في‬ ‫الرد‬ ‫على‬ ‫الحدادية‬ [بيان فساد أصول فهم الحدادية عن السلف...].

‫وكل‬‫ هذا‬ ‫جاء‬ ‫في‬ ‫سياق‬ ‫الحديث‬ ‫عن‬ ‫صفات‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫والشرائع‬ ‫المتواترة‬ ‫لا ‫عن‬ ‫شرك‬ ‫العبادة‪،‬‬ ‫فجاء‬ ‫ور‬‫جال‬‫ عند‬ ‫هؤلاء‪،‬‬ ‫فأثبتوا‬ ‫طائفة ‬‫من‬ ‫متأخري‬ ‫أه‬‫ل ‬‫السنة‪،‬‬ ‫ووضعوا‬ ‫ر‬‫جال‬‫ عند‬ ‫هؤلاء‬ الإعذار ‬‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الصفات‬ ‫في‬ ‫الجملة‬ ‫خلافا‬ ‫للمعتزلة‪،‬‬ ‫وإن‬ ‫اختلفوا‬ ‫في‬ ‫حكم‬ ‫أعيان‬ ‫الجهمية‪،‬‬ ‫ونفوا‬‫ الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫شرك‬ ‫العبادة‬ ‫بحجة‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫أصول‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫وكأن‬ ‫إثبات‬ ‫الصفات‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‬‫جل‬ ‫وعلا ‫ليس‬ ‫من‬ ‫أصول‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫و‬ هذا ‬‫خلاف‬ ‫ما‬ ‫صرح‬ ‫به‬ ‫عدد‬ ‫من‬ ‫أئمة‬ ‫أهل‬ ‫الحديث‬ ‫والسنة‬‫ كأبي‬ ‫حاتم‬ ‫وأبي‬ ‫زرعة‬ ‫الرازيين‬ ‫كعثمان‬ ‫الدارمي‬ ‫وأبي‬ ‫القسم‬ ‫الأصبهاني‬ ‫وأبي‬ ‫عثمان‬ ‫الصابوني‬‫‪.‬‬

‫وإذا‬‫ رجعنا‬ ‫إلى‬ ‫تقريرات‬ ‫وتأصيلات‬ ‫وتصرفات‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وجدناه‬ ‫لا ‫يفرق‬ ‫بين‬ ‫هذين‬ ‫الأصلين‬‫ في‬ ‫الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫ما‬ ‫لم‬ ‫تتحقق‬ ‫شروط‬ ‫التك‬‫فير‬‫ وتنتفي‬ ‫موانعه [ومن ذلك ما سيأتي من أقواله إن شاء ‫ٱللَّٰه‬]‬.‬‬

‫ويؤكد‬‫ هذا‬ ‫موقف‬ ‫السلف‬ ‫من‬ ‫رواة‬ ‫الحديث‬ ‫من‬ ‫القدرية‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫امتلأت‬ ‫بهم‬ ‫البصرة‬ ‫كما‬ ‫صرح‬ ‫ابن ‬‫المديني‪،‬‬ ‫وفيهم‬ ‫حفاظ‬ ‫كبار‪،‬‬ ‫حيث‬ ‫قبلوا‬ ‫مروياتهم‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫الصحيحين‪،‬‬ ‫رغم‬ ‫قولهم‬ ‫بأن ‬‫الإنسان‬ ‫يخلق‬ ‫فعل‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫شرك‬ ‫في‬ ‫الربوبية‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫كفر‬ ‫السلف‬ ‫بعضهم‪،‬‬ ‫إلا ‫أنهم‬ ‫لم‬ ‫يطلقوا‬‫ القول‬ ‫بتكفير‬ ‫جميعهم‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫الإجماع‬ ‫قائم‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫الحديث‬ ‫الشريف‬ ‫لا ‫يُتح‬م‬‫ل‬‫ من‬ ‫كافر‬‫‪.‬‬

‫وبهذا‬‫ يتبين‬ ‫خطأ‬ ‫من‬ ‫اعتمد‬ ‫هذه‬ ‫الحجة‬ ‫من‬ ‫أصحاب‬ ‫المذاهب‬ ‫الثلاثة‬ ‫ـ‬ ‫لا‬ ‫كلهم‬ ‫ـ‬ ‫كإسحاق‬ ‫بن‬ ‫عبد‬‫ الرحمن‬ ‫ومن‬ ‫تبعه‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‪،‬‬ ‫ونسب‬ ‫هذا‬ ‫لمحمد‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الوهاب‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫خطأ‬ ‫في‬ ‫الفه‬‫م‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫ومعارض‬ ‫بما‬ ‫ذكره‬ ‫أبناؤه‬ ‫وشيخه‬ ‫عبد‬ ‫اللطيف‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‬ ‫وابن‬ ‫سحمان‪،‬‬ ‫هذا‬‫ وإن‬ ‫كان‬ ‫مذهب‬ ‫محمد ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الوهاب‬ ‫مغايرا‬ ‫ألصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الرابع‪،‬‬ ‫لا ‫كما‬ ‫حسب‬ ‫الكثير‬‫ من‬ ‫المعاصرين‬ ‫أنه‬ ‫موافق‬ ‫لهم‪،‬‬ ‫ولا ‫كما‬ ‫حسب‬ ‫آخرون‬ ‫أنه‬ ‫على‬ ‫المذهب‬ ‫الأول‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫بينت ‬‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬‫‪.‬‬

ت - دلالة العام على الأحوال: هل تيتلزم العموم فيها أم أنها مطلقة فيها؟

‫وذلك‬‫ أن‬ ‫نصوص‬ ‫التكفير‬ ‫والحكم‬ ‫بالإشراك‬ ‫في‬ ‫الكتاب‬ ‫والسنة‬ ‫عامتها‬ ‫إلا ‫ما‬ ‫ندر‬ ‫جاء‬ ‫بأحد‬ ‫صيغ ‬‫العموم‪،‬‬ ‫والمراد‬ ‫بالأحوال‬ ‫ههنا‫‪:‬‬‫ الاختيار‬ ‫والإكراه‬ ‫والعمد‬ ‫والخطأ‬ ‫والعلم‬ ‫والجهل‬ ‫والتأويل‬‫‪.‬‬

‫وقد ‬‫اختلف‬ ‫الأصوليون‬ ‫في‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫فذهب‬ ‫جمهور‬ ‫متكلمة‬ ‫الأصوليين‬ ‫إلى‬ ‫أن‬ ‫العام‬ ‫يستلزم‬ ‫العموم‬‫ في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فإن‬ ‫العموم‬ ‫يشمل‬ ‫الأحوال‬ ‫كما‬ ‫يشمل‬ ‫الأشخاص‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يستثنى‬ ‫شيء ‬‫من‬ ‫ذلك‬ ‫إلا‬ ‫بدليل‬ ‫يخصص‬ ‫ذلك‬ ‫العموم‪،‬‬ ‫ويسمون‬ ‫هذا‬ ‫بالعموم‬ ‫اللفظي‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫قال‬ ‫أصحاب‬‫ المذاهب‬ ‫الثلاثة‬ ‫الأولى‪،‬‬ ‫أن‬ ‫نصوص‬ ‫تسمية‬‫ من‬ ‫أشرك‬ ‫بالكفار‬ ‫والمشركين‬ ‫نصوص‬ ‫عامة‪،‬‬‫ فدخل‬ ‫في‬ ‫عمومها‬ ‫محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫وشمل‬ ‫هذا‬ ‫الحكم‬ ‫حالة‬ ‫الجهل‪،‬‬ ‫لدلالة‬ ‫العام‬ ‫المستلزم‬ ‫للعموم‬‫ في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫ولا ‫مخصص‬ ‫لذلك‪،‬‬ ‫فبقي‬ ‫الدليل‬ ‫على‬ ‫عمومه‪،‬‬ ‫وبهذا‬ ‫المعنى‬ ‫احتج‬ ‫أبابطين‬‫ وعبد‬ ‫اللطيف‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‬ ‫وإسحاق‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‬‫‪.‬‬

‫وذهب ‬‫ب‬عض‬ ‫المحققين‬ ‫ـ‬ ‫ومنهم‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫ـ‬ ‫إلى‬ ‫أن‬ ‫العام‬ ‫لا ‫يستلزم‬ ‫العموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫وأنه‬ ‫مطلق ‬‫فيها‪،‬‬ ‫أي‬ ‫أن‬ ‫حكم‬ ‫النص‬ ‫العام‬ ‫لا ‫يظهر‬ ‫في‬ ‫أفراده‪،‬‬ ‫إلا‬ ‫من‬ ‫تحققت‬ ‫فيهم‬ ‫الشروط‬ ‫وانتفت‬ ‫عنهم ‬‫الموانع‪،‬‬ ‫وتعرف‬ ‫الشروط‬ ‫والموانع‬ ‫بالرجوع‬ ‫إلى‬ ‫نصوص‬ ‫أخرى‬ ‫تبين‬ ‫حكم‬ ‫مختلف‬ ‫تلك ‬‫الأحوال‪،‬‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذ‬لك‬ ‫حالة‬ ‫الجهل‪،‬‬ ‫ويسمي‬ ‫أصحاب‬ ‫هذا‬ ‫المذهب‬ ‫من‬ ‫الأصوليين‬ ‫هذا‬ ‫العموم ‬‫بالعموم‬ ‫المطلق‪،‬‬ ‫ولما‬ ‫كانت‬ ‫عامة‬ ‫نصوص‬ ‫الوعد‬ ‫والوعيد‬ ‫والتكفير‬ ‫والتفسيق‬ ‫واللعن‬ ‫جاءت‬‫ بصيغ‬ ‫العموم‪،‬‬ ‫والعمومات‬ ‫عنده‬ ‫مطلقة‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫نجد‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫ينعت‬ ‫تلك‬ ‫الأحكام‬ ‫بالمطلقة‪،‬‬‫ فيقول‫‪:‬‬‫ الوعد‬ ‫المطلق‪،‬‬ ‫والوعي‬‫د ‬‫المطلق‪،‬‬ ‫والتكفير‬ ‫المطلق‪،‬‬ ‫والتفسيق‬ ‫المطلق‪،‬‬ ‫واللعن ‬‫المطلق‪،‬‬ ‫ويقرر‬ ‫أن‬ ‫هذه‬ ‫الأحكام‬ ‫المطلقة‬ ‫لا ‫يستلزم‬ ‫لحوقها‬ ‫بالمعين‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫لأنه‬ لا‬ ‫يظهر‬‫حكم‬ ‫نصوصها‬ ‫العامة‬ ‫في‬ ‫الأشخاص‪،‬‬ ‫إلا ‫من‬ ‫تحققت‬ ‫فيه‬ ‫شروط‬ ‫ذلك‬ ‫وانتفت‬ ‫عنه‬ ‫موانعه‪،‬‬‫ فيلحق‬ ‫الحكم‬ ‫عينه‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫بحسب‬ ‫أحوال‬ ‫الشخص‬ ‫المعين‪،‬‬ ‫و‬‫فقا ‬‫للنصوص‬ ‫الأخرى‬ ‫التي ‬‫جاءت‬ ‫لبيان‬ ‫حكم‬ ‫المعين‬ ‫في‬ ‫مختلف‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫ومتى‬ ‫د‬‫ل‬ ‫الدليل‬ ‫على‬ ‫شرطية‬ ‫شرط‬ ‫ما‬ ‫أو‬ ‫مانعية ‬‫مانع‬ ‫ما‪،‬‬ ‫لا‬ ‫نجد‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫يفرق‬ ‫عند‬ ‫اعتباره‬ ‫لها‬ ‫بين‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫وبين‬ ‫سائر‬ ‫المكفرات‪،‬‬‫ كما‬ ‫هو‬ ‫واضح‬ ‫في‬ ‫حكمه‬ ‫في‬ ‫القلندرية‬ ‫وفي‬ ‫رافضة‬ ‫زمانه‬ ‫وفي‬ ‫البكري‬ ‫وفي‬ ‫الأخ‬‫نائي ‬‫وغيرهم‬ ‫من‬ ‫القبورية‬‫‪،‬‬‫ حيث‬ ‫نجده‬ ‫قد‬ ‫حرر‬ ‫تأصيل‬ ‫ذلك‬ ‫حول‬ ‫الصفات‬ ‫والشرائع‬ ‫المتواترة ‬‫في‬ ‫الكيلانية‪،‬‬ ‫ويحيل‬ ‫عليها‬ ‫عند‬ ‫حديثه‬ ‫عن‬ ‫محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫ويحتج‬ ‫بنفس‬ ‫الأدلة‬ ‫المذكورة ‬‫هناك‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫ذكرت‬ ‫براهين‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كتاب‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬‫‪.‬‬

‫ولذا‬‫ نجده‬ ‫يوجب‬ ‫التكفير‬ ‫المطلق‬ ‫للقبورية‬ ‫لدلالة‬ ‫عمو‬مات‬‫ نصوص‬ ‫الوحي‬ ‫على‬ ‫تكفير‬ ‫المشركين‪ ،‬‬‫التي‬ ‫هي‬ ‫مطلقة‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫يجعل‬ ‫تكفير‬ ‫المعين‬ ‫من‬ ‫القبورية‬ ‫موقوفا‬ ‫على‬ ‫تحقق ‬‫الشروط‬ ‫وانتفاء‬ ‫الموانع‪،‬‬ ‫الراجعة‬ ‫إلى‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫والتي‬ ‫تخلتف‬ ‫من‬ ‫شخص‬ ‫إلى‬ ‫شخص‪،‬‬ ‫ومن‬‫طائفة‬ ‫إلى‬ ‫أخرى‬‫‪.‬‬

‫فإن‬‫ قال‬ ‫قائل‬ ‫المسألة‬ ‫إذا‬ ‫فيها‬ ‫خلاف‬ ‫معتبر‪،‬‬ ‫فالجواب‬‫‪ :‬‬‫لا‫‪،‬‬‫ فإن‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫يذهب‬ ‫إلى‬ ‫أن‬ ‫القول‬ ‫الأول ‬‫"‫ال‬‫يوجد‫"‬‫‪،‬‬ ‫أي‬ ‫لا ‫وجود‬ ‫له‬ ‫في‬ ‫لسان‬ ‫العرب‪،‬‬ ‫وينسب‬ ‫مذهبه‬ ‫إلى‬ ‫أئمة‬ ‫السلف‬ ‫قاطبة‬‬،‬‬ ‫ويعتبر‬‫ اضطراب‬ ‫طوائف‬ ‫أهل‬ ‫القبلة‬ ‫من‬ ‫وعيدية‬ ‫ومرجئة‬ ‫في‬ ‫حكم‬ ‫أهل‬ ‫الكبائر‬ ‫دون‬ ‫الشرك‬ ‫في‬‫نصوص‬ ‫الوحي‪،‬‬ ‫واضطراب‬ ‫أتباع‬ ‫الأئمة‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫حكاه‬ ‫السجزي‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫فهم‬ ‫كلام‬ ‫أئمتهم‬ ‫في‬ ‫تكفيرهم ‬‫لأصحاب‬ ‫البدع‬ ‫المكفرة‪،‬‬ ‫راجع‬ ‫إلى‬ ‫عدم‬ ‫تحرير‬ ‫دلالة‬ ‫العموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫ذكرت‬‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬ ‫ما‬ ‫يشهد‬ ‫لصحة‬ ‫تقريره‬‫‪.‬‬

ويشهد لصحة نسبة ذلك للسلف, ما ذكره أهل العلم في عدد ناسخ ومنسوخ القرآن, وما وقع حول ذلك من اختلاف, ومن ذلك قول الضحاك في تفسير قوله تعالى ‫{‬يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ‬‫}: "القرآن والفهم فيه"‬, وقال: "في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام, لا بسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن, ولا تكونوا كأهل نهروان تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما أنزلت في أهل الكتاب جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة, فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيم أنزل ‫ٱللَّٰه لم يختلف في شيء منه" أورده الثعلبي في تفسيره وعنه البغوي في تفسيره وابن عادل الحنبلي في تفسيره اللباب في علوم الكتاب, ووجه ذلك أن السلف يدرجون العام والخاص تحت الناسخ والمنسوخ, لاعتبارهم تخصيص العام من قبيل النسخ الجزئي, كما أفاده ابن العربي وابن القيم والزركشي وغيرهم, ولا كان العام يستلزم العموم في الأحوال, ويشمل تخصيص العام, تخصيصها في بعض أحوالها, وبناء عليه قيل أن أكثر عمومات القرآن منسوخة, للزم منه أن عدد منسوخ القرآن أكثر من هذا الذي ذكره الضحاك بكثير جدا, كثرة لا تقارب أي قول من الأقوال في عدد منسوخ القرآن, وعذع فائدة عزيزة فعظ عيلها بالنواجد.

‫ومن ‬‫ذلك‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫فروع‬ ‫القول‬ ‫بأن‬ ‫العام‬ ‫مستلزم‬ ‫للعموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫دعوى‬ ‫أن‬ ‫أكثر‬ ‫عمومات‬ ‫القرآن‬‫ مخصوصة‪،‬‬ و‬‫في‬‫ هذا‬ ‫تهوين‬ ‫من‬ ‫دلالتها‬ ‫كما‬ ‫ذكر‬ ‫الشاطبي‬ ‫وابن‬ ‫القيم!! ‬‫وهذا‬ ‫متعلق‬ ‫بما‬‫ هو‬ ‫أكثر‬ ‫أنواع‬ ‫نصوص‬ ‫الوحي‫‪،‬‬‫ كما‬ ‫ذكر‬ ‫الشاطبي‬ ‫والسعدي‫‪،‬‬‫ بينما‬ ‫نجد‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وابن‬ ‫القيم‬‫ يبطلان‬‫ هذا‬ ‫القول‪،‬‬ ‫ويصرح‬ ‫ا‬‫ن‬‫بأن‬ ‫أكثر‬ ‫عمومات‬ ‫القرآن‬ ‫محفوظة‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫أن‬ ‫أكثر‬ ‫المخصصات ‬‫المدعاة‬ ‫متعلقة‬ ‫بالأحوال‬ ‫لا ‫بالأشخاص‪،‬‬ ‫فعليه‬ ‫فهي‬ ‫ليس‬‫ت‬‫ بمخصص‪،‬‬ ‫وإنما‬ ‫هي‬ ‫متعلقة ‬‫ببيان‬ ‫الشروط‬ ‫والموانع‬ ‫عندهما‪،‬‬ ‫ولم‬ ‫يتفطن‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬ ‫إلى‬ ‫أصل‬ ‫هذا‬ ‫الخلاف‪،‬‬‫ وغير‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫اللوازم‬ ‫الدالة‬ ‫على‬ ‫فساد‬ ‫هذا‬ ‫القول‬ ‫قد‬ ‫أوضحتها‬ ‫بفضل‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫في‬ ‫كشف ‫الالتباس‬‫‪.‬‬

‫وبهذا ‬‫يتبين‬ ‫خطأ‬ ‫أصحاب‬ ‫المذاهب‬ ‫الثلاثة‬ ‫الأولى‪،‬‬ ‫العتماد‬ ‫جميعهم‬ ‫على‬ ‫دلا‫لة‬‫ العموم‬ ‫اللفظي‪،‬‬‫ مع‬ ‫التنبيه‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬ ‫ممن‬ ‫لا‬ ‫يعذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫وممن‬ ‫يعذر ‬‫في‬ ‫غفلة‬ ‫تامة‬ ‫عن‬ ‫دلالة‬ ‫العام‬ ‫على‬ ‫الأحوال‬ ‫وعلاقتها‬ ‫بعمومات‬ ‫نصوص‬ ‫الوعد‬ ‫والوعيد‬ ‫والتكفير ‬‫والتفسيق‬ ‫واللعن‬‫‪،‬‬‫ حتى‬ ‫أنك‬ ‫تجد‬ ‫منهم‬ ‫من‬ ‫يقرر‬ ‫أصوليا‬ ‫بأن‬ ‫العام‬ ‫يستلزم‬ ‫العموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬‫ ويقرر‬ ‫عقديا‬ ‫التفريق‬ ‫بين‬ ‫التكفير‬ ‫والوعيد‬ ‫المطلق‬ ‫وأنه‬ ‫لا‬ ‫يستلزم‬ ‫الحكم‬ ‫على‬ ‫المعين‬ ‫إلا‬‫ بتحقق‬ ‫شروطه‫‪.‬‬

تنبيه مهم جدا: ‫تقرير‬ ‫أن‬ ‫دلالة‬ ‫العام‬ ‫على‬ ‫الأحوال‬ ‫مطلقة‬ ‫ولا‬ ‫تستلزم‬ ‫العموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫يفيد‬ ‫في‬ ‫دفع‬ ‫الاحتجاج‬ ‫بعمومات‬ ‫نصوص‬ ‫التكفير‬ ‫على ‬‫مختلف‬ ‫الأحوال‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫حال‬ ‫الجهل‬ ‫بسبب‬ ‫عدم‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‪،‬‬ ‫كما‬ ‫يفيد‬ ‫أن‬ ‫التكفير‬ ‫يشمل‬ ‫الأعيان‬ ‫في‬ ‫أحوال‬ ‫دون‬ ‫أخرى‪،‬‬‫ وأما‬ ‫تمييز‬ ‫الأحوال‬ ‫التي‬ ‫يُكفّر‬ ‫فيها‬ ‫على‬ ‫التعيين‬ ‫عن‬ ‫الأحوال‬ ‫التي‬ ‫ال‬ ‫يُكفّر‬ ‫فيها‬ ‫على‬ ‫التعيين‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫يحتاج‬ ‫إلى‬ ‫أدلة‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فال‬ ‫تفيد‬ ‫دلالة ‬‫العموم‬ ‫المطلق‬ ‫بذااتها‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫الجهل‬ ‫مانع‬ ‫من‬ ‫موانع‬ ‫التكفير‪،‬‬ ‫وإنما‬ ‫أُثبت‬ ‫ذلك‬ ‫بأدلة‬ ‫وأصول‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫فتنبه‬‫‪.‬‬

ث - مسألة التحسين والتقبيح العقلى

‫اعلم‬‫ أن‬ ‫المذاهب‬ ‫العقدية‬ ‫في‬ ‫مسألة‬ ‫التحسين‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقلي‬ ‫ثلاثة‬‫‪:‬‬

مذهب المعتزلة: ‫أن‬ ‫العقل‬ ‫يدرك‬ ‫حسن‬ ‫وقبح‬ ‫بعض‬ ‫الأفعال‬ ‫ـ‬ ‫كحسن‬ ‫الصدق‬ ‫والعدل‬ ‫وقبح‬ ‫الكذب‬‫ والظلم‬ ‫ـ‬ ‫قبل‬ ‫ورود‬ ‫الشرع‪،‬‬ ‫وأنه‬ ‫يترتب‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫التكليف‬ ‫الشرعي‬ ‫من‬ ‫إيجاب‬ ‫وتحريم‬ ‫والأسماء‬‫ الشرعية‬ ‫باتفاقهم‪،‬‬ ‫والوعيد‬ ‫على‬ ‫المخالف‪،‬‬ ‫على‬ ‫اختلاف‬ ‫بينهم‪،‬‬ ‫وذكر‬ ‫اختلافهم‬ ‫الحاكم‬‫ الجشمي‬ ‫المعتزلي‬ ‫في‬ ‫تفسيره‪،‬‬ ‫واختار‬ ‫الزمحشري‬ ‫المعتزلي‬ ‫في‬ ‫كشافه‬ ‫عدم‬ ‫ترتب‬ ‫الوعيد ‬‫على‬ ‫المخالف‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫غير‬ ‫القول‬ ‫المشهور‬ ‫عنهم‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫قول‬ ‫جمهورهم‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫الخلاف‬ ‫بينهم‬‫ال‬ ‫يذكره‬ ‫المخالفون‬ ‫لهم‪،‬‬ ‫ويصورون‬ ‫أنها‬ ‫اتفاقية‬ ‫بينهم‪،‬‬ ‫فتنبه‬‫‪.‬‬

مذهب الأشاعرة: ‫أن‬ ‫العقل‬ ‫ال‬ ‫يدرك‬ ‫حسن‬ ‫وقبح‬ ‫الأفعال‬ ‫قبل‬ ‫ورود‬ ‫الشرع‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫ا‬‫لتحسين‬ ‫والتقبيح ‬‫شرعيان‬ ‫لا ‫مدخل‬ ‫للعقل‬ ‫فيهما‬ ‫البتة‬‫‪.‬‬

مذهب أهل السنة ‫وسط‬ ‫بين‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫فهم‬ ‫يقرون‬ ‫بإدراك‬ ‫العقل‬ ‫لحسن‬ ‫وقبح‬ ‫بعض‬ ‫الأفعال‬ ‫قبل‬ ‫ورود ‬‫الشرع‪،‬‬ ‫وينفون‬ ‫ترتب‬ ‫التكليف‬ ‫الشرعي‬ ‫على‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫إذ‬ ‫التكليف‬ ‫عندهم‬ ‫موقوف‬ ‫على‬ ‫الوحي‬‫ـ‪،‬‬ ‫فضال‬ ‫عن‬ ‫ترتب‬ ‫الوعيد‬ ‫على‬ ‫المخالف‫‪.‬‬

ومن أعظم من فصل في مذهب أهل السنة واستدل له شيخ الإسلام ابن تيمية, وكان من جملة ما قاله في سياق الرد على المعتزلة والأشاعرة:

وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الرِّسَالَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَسْمَاءَ وَأَحْكَامٍ , وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَسْمَاءَ وَأَحْكَامٍ وَذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ: عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ الْأَفْعَالَ لَيْسَ فِيهَا حَسَنٌ وَقَبِيحٌ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ سَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ وَطَاغِينَ وَمُفْسِدِينَ؛ لِقَوْلِهِ: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} وَقَوْلِهِ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ ظَالِمٌ وَطَاغٍ وَمُفْسِدٌ هُوَ وَقَوْمُهُ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ ذَمِّ الْأَفْعَالِ؛ وَالذَّمُّ إنَّمَا. يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْقَبِيحَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ تَكُونُ قَبِيحَةً مَذْمُومَةً قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ إلَّا بَعْدَ إتْيَانِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ هُودَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا مُفْتَرُونَ} فَجَعَلَهُمْ مُفْتَرِينَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ يُخَالِفُونَهُ؛ لِكَوْنِهِمْ جَعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَاسْمُ الْمُشْرِكِ ثَبَتَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ بِرَبِّهِ وَيَعْدِلُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَجْعَلُ لَهُ أَنْدَادًا قَبْلَ الرَّسُولِ وَيُثْبِتُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَهْلِ وَالْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ: جَاهِلِيَّةً وَجَاهِلًا قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ وَأَمَّا التَّعْذِيبُ فَلَا. وَالتَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ. {فَكَذَّبَ وَعَصَى} كَانَ هَذَا بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى} وَقَالَ: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (الفتاوى ٢٨/٢٠)

‫ففي‬‫ هذا‬ ‫ا‬لسياق‬ ‫قرر‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫ثبوت‬ ‫اسم‬ ‫المشرك‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الرسالة‪،‬‬ ‫وعلى‬ ‫قوله‬ ‫هذا‬ ‫بنى‬ ‫طائفة‬‫ من‬ ‫المعاصرين‬ ‫من‬ ‫أصحاب‬ ‫المذاهب‬ ‫الثلاثة‬ ‫الأولى‬ ‫قولهم‪،‬‬ ‫إلا‬ ‫أنهم‬ ‫لم‬ ‫يفهموا‬ ‫قوله‪،‬‬ ‫لعدم‬‫ معرفتهم‬ ‫بدقائق‬ ‫مذاهب‬ ‫المتكلمين‪،‬‬ ‫وكلام‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫جاء‬ ‫في‬ ‫سياق‬ ‫الرد‬ ‫عليهم‪،‬‬ ‫فخلطوا‬ ‫الحابل ‬‫بالنابل‪،‬‬ ‫إ‬‫ذ‬ ‫مراده‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫السياق‬ ‫ـ‬ ‫باسم‬ ‫المشرك‬ ‫حقيقته‬ ‫اللغوية‬ ‫الدالة‬ ‫على‬ ‫قبحه‬ ‫وذمه‬‫ عقلا ‫لا ‫شرعا‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫السياق‬ ‫متعلق‬ ‫بالتقبيح‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫وقبل‬ ‫مجيء‬ ‫الرسالة‪،‬‬ ‫بينما‬ ‫حمله‬ ‫هؤلاء‬‫ على‬ ‫الذم‬ ‫الشرعي‬ ‫وأرادوا‬ ‫به‬ ‫حقيقته‬ ‫الشرعية‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫تفسير‬ ‫منهم‬ ‫لكلام‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫بنظارة ‬‫اعتزالية‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫لا‬ ‫يشعرون‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫الذم‬ ‫الشرعي‬ ‫والحقائق‬ ‫الشرعية‬ ‫من‬ ‫جملة‬ ‫الأحكام‬ ‫الشرعية‪،‬‬‫ موقوفة‬ ‫على‬ ‫مجيء‬ ‫الوحي‬ ‫عند‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وباتفاق‬ ‫أهل‬ ‫السنة‪،‬‬ ‫خالفا‬ ‫للمعتزلة‪،‬‬ ‫فكيف‬‫ يقال‬ ‫بأنه‬ ‫أراد‬ ‫بذلك‬ ‫باسم‬ ‫المشرك‬ ‫ههنا‬ ‫حقيقته‬ ‫الشرعية‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الرسالة‬ ‫لتقبيح‬ ‫العقل‬‫ له؟‬ ‫!! ‬‫هذا‬ ‫عين‬ ‫قول‬ ‫المعتزلة‬‫‪.‬‬

‫ومم‬‫ا‬‫ أوقع‬ ‫هؤلاء‬ ‫في‬ ‫هذه‬ ‫الهفوة‬ ‫الكبيرة‪،‬‬ ‫ظنهم‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يرتب‬ ‫الوعيد‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الرسالة‬ ‫فقد‬ ‫برئ‬‫ من‬ ‫قول‬ ‫المعتزلة‬ ‫وسلم‬ ‫من‬ ‫شائبته‪،‬‬ ‫وغفل‬ ‫هؤلاء‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫وإن‬ ‫كان‬ ‫هو‬ ‫المشهور‬ ‫عنهم‪،‬‬ ‫إلا أن‬ ‫بعض‬ ‫أئمتهم‬ ‫يحكون‬ ‫اختلافا‬ ‫بينهم‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فالذي‬ ‫اتفقوا‬ ‫عليه‬ ‫إنما‬ ‫هو‬ ‫ترتيب‬ ‫الأحكام‬ ‫التكليفية ‬‫والأسماء‬ ‫الشرعية‬ ‫على‬ ‫التقبيح‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫عين‬ ‫ما‬ ‫وقع‬ ‫فيه‬ ‫هؤلاء‪،‬‬ ‫وحملوا‬ ‫عليه‬ ‫كلام‬‫ ابن‬ ‫تيمية‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫تحريف‬ ‫منهم‬ ‫لتقريراته‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫لا‬ ‫يشعرون‬‫‪.‬‬

ومن باب إعادة الترتيب لما سبق, ومزيد من التوضيح والتمييز بين مذهب أهل الحق ومذهب أهل الباطل, أقول مستعينا ب‫ٱللَّٰه‬:

‫المثبت‬‫ة‬‫ للتحسين‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقلي‬ ‫بعد‬ ‫اتفاقهم‬ ‫على‫‪:‬‬‫ إدراك‬ ‫العقل‬ ‫لقبح‬ ‫أشياء‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الوحي‬‫‪،‬‬ ‫يتفاوتون‬‫ فيما‬ ‫رتبوه‬ ‫على‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وأسوق‬ ‫جميعها‬ ‫على‬ ‫مراتب‬‫‪:‬‬

المرتبة الأولى: ‫ترتيب‬ ‫الذم‬ ‫العقلي‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫‪.‬‬

المرتبة الثانية: ترتيب الأسماء اللغوية الدالة على قبح ذلك وذمه عقلا (نحو: ظالم, طاغ, مفسد, مشرك).

المرتبة الثالثة: ترتيب التكليف والذم الشرعيين على ذلك إيجابا وتحريما.

المرتبة الرابعة: ترتيب الأسماء الشرعية على ذلك (نحو: صالح, فاسق, مسلم, مؤمن, كافر, منافق, مشرك).

المذهب الخامس: ترتيب استحقاق الوعيد لوجود السبب, مع توقف لحوقه على شرطه, وهو قيام الحجة الرسالية.

المذهب السادسة: ‫ترتيب‬ ‫إلحاق‬ ‫الوعيد‬ ‫بالمعين‬ ‫المتلبس‬ ‫بما‬ ‫يدرك‬ ‫العقل‬ ‫قبحه‬ ‫‪.‬‬

وعلى هذا تنبيهان مهمان:

التنبيه الأول: ‫أن‬ ‫جميع‬ ‫هذه‬ ‫المراتب‬ ‫يأتي‬ ‫ذكرها‬ ‫عند‬ ‫من‬ ‫يذهب‬ ‫إليها‬ ‫أصالة‬ ‫وصراحة‪،‬‬ ‫باستثناء‬‫المرتبتين‬ ‫الثانية‬ ‫والرابعة‬ ‫فإنهما‬ ‫يذكران‬ ‫تبعا‪،‬‬ ‫ويظهران‬ ‫في‬ ‫تصرفات‬ ‫القائلين‬ ‫بها‬ ‫الفقهية‬ [‫سواء ‬‫أذكروا‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كتب‬ ‫الف‬‫قه ‬‫أو‬ ‫في‬ ‫كتب‬ ‫أصول‬ ‫الفقه]‬.

التنبيه الثاني: ‫أن‬ ‫المرتبتين‬ ‫الأولى‬ ‫والثانية‬ ‫متلازمتان‪،‬‬ ‫وكذلك‬ ‫الثالثة‬ ‫والرابعة‬ ‫متلازمتان‬ ‫تلازم‬‫ا ‬‫صريحا‪،‬‬ ‫إلا‬ ‫عند‬ ‫من‬ ‫ضعفت‬ ‫بضاعته‬ ‫الأصولية‬ ‫وتناقض‫‪.‬‬

‫وأشرع‬‫ الآن في ‫تمييز‬ ‫مذهب‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫عن‬ ‫مذهب‬ ‫المعتزلة‬ ‫بالحديث‬ ‫عن‬ ‫المراتب‬ ‫الستة‬ ‫السابقة‬‫ واحدة‬ ‫واحدة‫‪:‬‬

وأما المرتبة الأولى فحمل اتفاق بينهما.

وأما المرتبة الثانية فيثبتها أهل السنة, وقد ذكرها ابن تيمية [انظر: مجموع الفتاوى ٢٠ /٣٨, وقد سبق نقله من قريب], ويفرقون بينها وبين المرتبة الرابعة, وأما المعتزلة فيجعلونهما مرتبة واحدة, وهذا هو مربط الفرس في كشف الخلط بين المذهبين.

وأما المرتبة الثالثة فلا يقول بها إلا المعتزلة, وهذا غير إيجاب التوحيد بحجة العقل, فهذا محل ‫اتفاق‬ ‫بين‬ ‫المتكلمين‪،‬‬ ‫وأيا‬ ‫كان‬ ‫فالنتيجة‬ ‫واح‬‫دة‪،‬‬‫ وهي‬ ‫إثبات‬ ‫التكليف‬ ‫الشرعي‬ ‫في‬ ‫التوحيد‬ ‫وترك ‬‫الشرك‬ ‫بناء‬ ‫على‬ ‫الدليل‬ ‫العقلي‬ ‫‪.‬‬

وأما المرتبة الرابعة فهي الأخرى لا يقول بها إلا المعتزلة, وذلك لما بينها وبين المرتبة الثالثة من تلازم, مع التنبيه على أن هذين المرتبين - الثالثة والرابعة - محل اتفاق بين المعتزلة قاطبة.

وأما المرتبة الخامسة فقد صرح بها من أهل السنة ابن تيمية وابن القيم, وهذا منهما من باب تحقيق المعنى المراد من نفي المرتبة السادسة.

وأما المرتبة السادسة فيخطئ من يحسب أنها محل اتفاق بين المعتزلة, وأن من تبرأ منها فقد برئ من مذهب المعتزلة في مسألة التحسين والتقبيح العقلي, فليس الأمر كذلك, وإن كان ‫هو‬ ‫المشهور‬ ‫عنهم‪،‬‬ ‫إلا ‫أن‬ ‫بعض‬ ‫رؤوسهم‬ ‫صرحوا‬ ‫بأن‬ ‫هذا‬ ‫قول‬ ‫جمهورهم‬ ‫وأكثرهم‪،‬‬ ‫وهو‬‫ ما‬ ‫ذكره‬ ‫الجشمي‬ ‫وابن‬ ‫أبي‬ ‫حديد‬ ‫المعتزليان‬ ‫‪،‬‬‫وممن‬ ‫خالف‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫بصريح‬ ‫العبارة‬ ‫بعد‬ ‫ذكره ‬‫لمشهور‬ ‫قولهم‬ ‫الزمخشري‬ ‫المعتزلي‬ ‫في‬ ‫كشافه‬ ‫‪،‬‬‫وخفاء‬ ‫هذا‬ ‫ساهم‬ ‫في‬ ‫مزلق‬ ‫موافقة‬ ‫المعتزلة‬‫ في‬ ‫شعبة‬ ‫من‬ ‫مذهبهم‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫لا ‫يشعرون‬ ‫‪.‬‬

‫والذي‬‫ أجمع‬ ‫عليه‬ ‫أئمة‬ ‫السلف‬ ‫أن‬ ‫لا ‫تكليف‬ ‫إلا ‫بسمع‫‪،‬‬‫ وأن‬ ‫التكليف‬ ‫لا ‫يقع‬ ‫بالعقل‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫الأمر ‬‫بالتوحيد‬ ‫والنهي‬ ‫عن‬ ‫الشرك‪،‬‬ ‫وحك‬‫ى‬‫ اتفاقهم‬ ‫السجزي‬ ‫واللالكائي‬ ‫والهروي‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫‪.‬‬

‫وهذا ‬‫مع‬ ‫إجماعهم‬ ‫على‬ ‫إ‬‫در‬‫اك‬‫ العقل‬ ‫لحسن‬ ‫التوحيد‬ ‫وقبح‬‫ الشرك‫‪،‬‬‫ ذكر‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫الجملة‬ ‫عنهم‬ ‫السجزي‬‫‪،‬‬‫ وصرح‬ ‫ب‬حكاية‬‫ اتفاقهم‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وابن‬ ‫القيم [انظر: مقالة: اتفاق السلف على أن التكليف الشرعي بإيجاب معرفة ‫‫ٱللَّٰه وعبادته حاصل بالسمع لا بالعقل].

‫وعليه‬‫ ف‬أئمة‬‫ السلف‬ ‫مجمعون‬ ‫على‬ ‫إثبات‬ ‫المرت‬‫بة‬‫ الأولى‬ ‫ونفي‬ ‫المرتب‬‫ة‬‫ الثالثة‬ ‫والسادسة‬‫‪.‬‬

ومنشا غلظ من غلظ بخلطه بين أهل السنة ومذهب المعتلة هو خلطهم بين المرتبة الثانية والرابعة المتعلقتان بمدلول الاسم, أي خلطهم بين الأسماء اللغوية الدالة على قبح مدلولها عقلا - التي لا بتوقف إطلاقها على مجيء الوحي بالتكليف ولا يترتب الوعيد على مرتكبها لمخالفة دليل العقل -, وبين الأسماء الشرعية - التي يتوقف إطلاقها على مجيء الوحي بالتكليف ويترتب الوعيد على مرتكبها لمخالفته دليل الوحي -, وساهم في ذلك أمران:

أولهما: أن اسم المشرك, لا يختلف مدلوله الشرعي في الجملة عن مدلوله اللغوي, وأنه مندرج تحت المرتبة الثانية والرابعة, ومشهور قول العرب في الجاهلية في التلبية: لا شريك لك لبيك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

وثانيهما: ظنهم أن المرتبة السادسة المتعلقة بترتيب لحوق الوعيد محل اتفاق بين المعتزلة, وأن من برىء منها فقد سلم من الاتزال في هذه المسألة, وجهلهم بأن الذي هو محل اتفاق بين المعتزلة - وهو أبرز ما يفصلهم عن أهل السنة - إنما هو المرتبة الثالثة والرابعة, المتعلقتان بترتيب التكليف والأسماء الشرعية بناء على دليل العقل, فما المرتبة السادسة إلا فرع عنهما عند جمهورهم.

‫و‬‫عليه‬‫ ف‬إنما‬‫ يسل‬ ‫م‬‫من‬ ‫الاعتزال‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يرتب‬ ‫على‬ ‫تقبيح‬ ‫العقل‬ ‫التكليف‬ ‫الشرعي‬ ‫وإ‬طلاق‬ ‫الأسماء‬‫ الشرعية‬ ‫على‬ ‫المتلبس‬ ‫بما‬ ‫يقبحه‬ ‫العقل‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الوحي‬ ‫وبعثة‬ ‫الرسل‬ ‫فيما‬ ‫يتعلق‬ ‫بالتوحيد‬‫ والشرك‬‫‪،‬‬‫ وهذا‬ ‫ما‬ ‫وقع‬ ‫فيه‬ ‫من‬ ‫خلط‬ ‫بين‬ ‫مذهبي‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫والمعتزلة‬‫‪.‬‬

‫وأما‬‫ من‬ ‫يثبت‬ ‫المرتبة‬ ‫الرابعة‬ ‫دون‬ ‫الثالثة‪،‬‬ ‫فمن‬ ‫جهله‬ ‫بأصول‬ ‫الفقه‬ ‫وتناقضه‬ ‫أوتي‪،‬‬ ‫وتناقضه‬ ‫في‬‫هذا‬ ‫خير‬ ‫له‬ ‫وأقل‬ ‫شرا‫‪.‬‬

‫ويؤكد‬‫ ما‬ ‫سبق‬ ‫أن‬ ‫أوضحته‬ ‫عن‬ ‫تقريرات‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫أنه‬ ‫لا‬ ‫يرى‬ ‫تعارضا‬ ‫بين‬ ‫تسمية‬‫ محل‬ ‫النزاع‬ ‫بالمشرك‬ ‫بحقيقته‬ ‫اللغوية‪،‬‬ ‫تقبيحا‬ ‫وذما‬ ‫عقليا‬ ‫لفعله‪،‬‬ ‫وبين‬ ‫تسميته‬ ‫بالمسلم‪،‬‬ ‫وشواهد‬‫ هذا‬ ‫كثيرة‬ ‫وأكتفي‬ ‫بنقل‬ ‫أقواها‬ ‫واختصار‬ ‫ما‬ ‫سواه‬‫‪:‬‬

ففي كتاب الرد على الإخنائي, نجد ابن تيمية عند حديثه على الأخنائي وأشباهه قال فيهم مرة: "والمقصود أن ما سنه لأمته نوع غير النوع الذي يقصده أهل البدع من السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فإنهم لا يسافرون لأجل ما شرع من الدعاء لهم والاستغفار بل لأجل دعائهم والدعاء بهم والاستشفاع بهم، فيتخذون قبورهم مساجد وأوثانًا وعيدًا يجتمعون فيه. وهذا كله مما نهى عنه رسول ‫‫ٱللَّٰه صلى ‫‫ٱللَّٰه عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، فكيف يشبه ما نهى عنه وحرمه بما سنّه وفعله؟ وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله ليس الغلط فيه من خصائصه، ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه كما أمر ٱللَّٰه تعالى، فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار فقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ} [سورة المائدة: (٨)]، فكيف بإخواننا المسلمين والمسلمون إخوة، و‫‫ٱللَّٰه يغفر له ويسدده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين." ص ٢٤٢ [ت: العنزي] / ص ٩١-٩٢ [ت: الزهري].

وقال فيهم أخرى [ص ٤٨٠]: "فمن عاب من اتبع ما تبين له من سنة الرسول صلى ‫‫ٱللَّٰه عليه وسلم ولم يستحل أن يخالفه ويتبع غيره فهو مخطئ مذموم على عيبه له بإجماع المسلمين، فكيف إذا كان يدعو إلى ما يفضي إلى الشرك العظيم: من دعاء غير ‫‫ٱللَّٰه، واتخاذهم أوثانًا، والحج إلى غير بيت ‫‫ٱللَّٰه، لا سيما مع تفضيل الحج إليها على حج بيت ‫‫ٱللَّٰه أو تسويته به أو جعله قريبًا منه، فهؤلاء المشركون والمفترون مثل هذا المعترض وأمثاله المستحقين للجهاد، وبيان ما دعوا إليه من الضلال والفساد، وما نهوا عنه من الهدى والرشاد، ولتكون كلمة ‫‫ٱللَّٰه هي العليا ويكون الدين كله للَّٰه" [ت: العنزي] / ص ٢١٨ [ت: الزهري].

‫وسمى ‬‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫في‬ ‫مواطن‬ ‫متعددة‬ ‫في‬ ‫سياق‬ ‫حديثه‬ ‫عن‬ ‫مشابهتهم‬ ‫للمشركين‬ ‫مرة‬ ‫في‬ ‫الدعاء ‬‫الشركي‬ ‫ومرة‬ ‫في‬ ‫الشفاعة‬ ‫الشركية‬ ‫ومرة‬ ‫في‬ ‫عبادة‬ ‫الوسائط‬ ‫لتقربهم‬ ‫إلى‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫زلفى‬ ‫بـ‬‫"‬‫أهل‬ ‫البدع‬ ‫من‬ ‫المسلمين"‬‫‪،‬‬ ‫وبـ"‬‫مبتدعة ‬‫هذه‬ ‫الأمة"‬‫‪،‬‬‫ وبـ"‬‫جهال‬‫ هذه‬ ‫الأمة‬ ‫وضلالهم‫"‬‫‪،‬‬ ‫وبـ‬‫"‬‫ضلال ‬‫أهل‬ ‫القبلة"‬‫‪،‬‬‫ وتجد‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫التوسل‬ ‫والوسيلة‬ ‫[انظر‬‫‪:‬‬‫ مجموع‬ ‫الفتاوى‬ ١‬‬‫‪‬‬/١٤٩-١٥٠ و١٥٩-١٦٠ و٣٣٢]‬‬‫ واقتضاء‬ ‫الصراط‬ ‫المستقيم‬ ٢/ ٣٥٩-٣٦٠ ‫[ت‪ ‬‫‪:‬‬‫ ناصر ‫العقل]‬‫‪،‬‬ ‫ومجموع‬‫ الفتاوى‬ ٢٧ /٢٨٣, ‫‪ ‫‪ ‬‬‫‪‬‬‫‪‫ويؤكد‬ ‫هذا‬ ‫الذي‬ ‫ذكرت‬ ‫احتجاجه‬ ‫عند‬ ‫الحديث‬ ‫عن‬ ‫تكفير‬ ‫أعيان‬ ‫القبوريين‬‫ بحديث‬ ‫"‫إن‬‫ه ‫‫ٱللَّٰه ‫تجاوز‬ ‫عن‬ ‫أمتي‬ ‫الخطأ‫"‬‫ في‬ ‫عدد‬ ‫من‬ ‫المواطن‪،‬‬ ‫وغير‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫الشواهد‬‫ التي‬ ‫بينتها‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‪،‬‬ ‫وأختم‬ ‫بما‬ ‫قاله‬ ‫بعد‬ ‫أن‬ ‫ذكر‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫أطاع‬ ‫الشيطان‬ ‫في‬ ‫معصية‬‫ ‫‫ٱللَّٰه ‫صار‬ ‫فيه‬ ‫من‬ ‫الشرك‬ ‫بالشيطان‬ ‫بقدر‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫هذا‬ ‫قد‬ ‫يكون‬ ‫شركا‬ ‫أكبر‬ ‫وقد‬ ‫يكون‬ شركا أصغر: "وَأما إِن اتخذ الْإِنْسَان مَا يهواه إِلَهًا من دون ٱللَّٰه وأحبه كحب ٱللَّٰه فَهَذَا شرك اكبر والدرجات فِي ذَلِك مُتَفَاوِتَة وَكثير من النَّاس يكون مَعَه من الْإِيمَان بِاللَّه وتوحيده مَا ينجيه من عَذَاب ٱللَّٰه وَهُوَ يَقع فِي كثير من هَذِه الْأَنْوَاع وَلَا يعلم أَنَّهَا شرك بل لَا يعلم أَن ٱللَّٰه حرمهَا وَلم تبلغه فِي ذَلِك رِسَالَة من عِنْد ٱللَّٰه وَٱللَّٰه تَعَالَى يَقُول {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَهَؤُلَاءِ يكثرون جدا فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة الَّتِي تظهر فِيهَا فَتْرَة الرسَالَة بقلة القائمين بِحجَّة ٱللَّٰه فَهَؤُلَاءِ قد يكون مَعَهم من الْإِيمَان مَا يرحمون بِهِ وَقد لَا يُعَذبُونَ بِكَثِير مِمَّا يعذب بِهِ غَيرهم مِمَّن كَانَت عَلَيْهِ حجَّة الرسَالَةفَيَنْبَغِي أَن يعرف أَن اسْتِحْقَاق الْعباد للعذاب بالشرك فَمَا دونه مَشْرُوط ببلاغ الرسَالَة فِي أصل الدَّين وفروعه" جامع السائل ٢٩٣/٢. وأما ‫إثباته‬ ‫الإيمان‬ ‫المنجي‬ ‫لمحل‬ ‫النزاع‬ ‫وهو‬ ‫إيمان‬ ‫مجمل‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫قاله‬ ‫في‬ ‫مواطن‬ ‫أخرى‪،‬‬‫ وأما‬ ‫التوحيد‬ ‫المنجي‪،‬‬ ‫فلم‬ ‫أقف‬ ‫عليه‬ ‫إلا‬ ‫في‬ ‫هذا‬ ‫الموطن‫‪.‬‬

‫فإن‬‫ سأل‬ ‫سائل‫‪:‬‬‫ فكيف‬ ‫اجتمع‬ ‫عند‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫هذا‬ ‫مع‬ ‫تسميته‬ ‫إياه‬ ‫بالمشرك‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫الذي‬ ‫قرر‬ ‫أن‬ ‫المسلم ‬‫هو‬ ‫الموحد‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫التوحيد‬ ‫والشرك‬ ‫ضدان‬ ‫لا‬ ‫يجتمعان؟‬

‫فالجواب‬‫‪:‬‬‫ أن‬ ‫مراده‬ ‫بالتوحيد‬ ‫المنجي‬ ‫لمحل‬ ‫النزاع‬ ‫التوحيد‬ ‫المجمل‪،‬‬ ‫أي‬ ‫اعتقاد‬ ‫أن‬ ‫ٱللَّٰه ‫هو‬ ‫المستحق‬‫ وحده‬ ‫للعبادة‬ ‫دون‬ ‫سواه‪،‬‬ ‫وأما‬ ‫عما‬ ‫وقع‬ ‫فيه‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫من‬ ‫شرك‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫الشرك‬ ‫الأكبر ‬‫سبب‬ ‫لنقض‬ ‫لإليمان‪،‬‬ ‫إلا‬ ‫أن‬ ‫السبب‬ ‫كحكم‬ ‫وضعي‬ ‫يتوقف‬ ‫تأثيره‬ ‫على‬ ‫تحقق‬ ‫الشرط‬ ‫وانتف‬‫اء‬ ‫المانع‪،‬‬ ‫كما‬ ‫صرح‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫أكقر‬ ‫من‬ ‫موطن‬ ‫(خالف ا‬‫لمتكلمة‬ ‫ألأصوليين‬ ‫من‬ ‫الأشعرية‬‫ حيث‬ ‫نفوا‬ ‫تأثير‬ ‫الأحكام‬ ‫الوضعية‫‪:‬‬‫ السبب‬ ‫والشرط‬ ‫والمانع‪،‬‬ ‫طردا‬ ‫لنفيهم‬ ‫تأثير‬ ‫الأسباب‬‫ الكونية‬ ‫في‬ ‫باب‬ ‫القدر‪،‬‬ ‫وجعلوا‬ ‫تأثير‬ ‫الأحكام‬ ‫الوضعية‬ ‫مجازي‬ ‫لا ‫حقيقي‪،‬‬ ‫ولذا‬ ‫سموها‬‫ أمارات‪،‬‬ ‫وجعلوا‬ ‫المانع‬ ‫رافعا‬ ‫للحكم‬ ‫لا ‫مانعا‬ ‫له‬ ‫على‬ ‫الحقيقة‫) ‬‫‪،‬‬‫فإذا‬ ‫تخلف‬ ‫الشرط‬ ‫ووجد ‬‫المانع‬ ‫انتفى‬ ‫تأثير‬ ‫السبب‪،‬‬ ‫وبقي‬ ‫الإيمان‬ ‫المجمل‬ ‫والتوحيد‬ ‫المجمل‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫ثم‬ ‫بقي‬ ‫له‬ ‫اسم‬ ‫المسلم‬‫‪.‬‬

‫وأما‬‫ عن‬ ‫تسميته‬ ‫ألعيان‬ ‫من‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫مرة‬ ‫بالمسلم‬ ‫ومرة‬ ‫بالمشرك‪،‬‬ ‫فمراده‬ ‫بالمشرك‬ ‫حقيقته‬‫ا للغوية‬ ‫الدالة‬ ‫على‬ ‫ذمه‬ ‫عقال‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫قبل‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫ـ‬ ‫الدالة‬ ‫على‬ ‫أن‬‫فعل‬ ‫ما‬ ‫أو‬ ‫قولا‬ ‫ما‬ ‫حكمه‬ ‫في‬ ‫دين‬ ‫ٱللَّٰه ‫أنه‬ ‫عبادة‬ ‫لغير‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫وشرك‬ ‫أكبر‬ ‫وكفر‬ ‫مخرج‬ ‫من‬ ‫الملة‬ ‫ـ‬‫ بعد‬ ‫بلوغها‪،‬‬ ‫وبفوات‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بما‬ ‫سبق‬ ‫ينتفى‬ ‫معه‬ ‫التكليف‬ ‫بتركه‬ ‫شرعا‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫لا ‫تكليف‬ ‫في‬‫ التوحيد‬ ‫إلا‬ ‫ب‬‫وحي‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فاسم‬ ‫المشرك‬ ‫بهذا‬ ‫المعنى‬ ‫لا‬ ‫يتعارض‬ ‫مع‬ ‫اسم‬ ‫المسلم‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫لا‬ ‫يستلزم‬‫ التكفير‬ ‫العيني‬.‬‬

‫بخلاف‬‫ اسم‬ ‫المشرك‬ ‫بحقيقته‬ ‫الشرعية‬ ‫ـ‬ ‫وهذا‬ ‫يطلق‬ ‫على‬ ‫المعين‬ ‫بعد‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بما‬ ‫سبق‬ ‫ذكره‪،‬‬‫ الذي‬ ‫يقع‬ ‫به‬ ‫التكليف‬ ‫ـ‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫مستلزم‬ ‫للتكفير‬ ‫العيني‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يجتمع‬ ‫مع‬ ‫اسم‬ ‫المسلم‬‫‪.‬‬

‫فهذا ‬‫هو‬ ‫مقتضى‬ ‫أصول‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وما‬ ‫يفيده‬ ‫مجموع‬ ‫كلامه‬‫‪.‬‬

‫ومن‬‫ ظن‬ ‫أن‬ ‫هذا‬ ‫مستلزم‬ ‫للتسوية‬ ‫بين‬ ‫الموحد‬ ‫والمشرك‪،‬‬ ‫فها‬ ‫هو‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫يقرر‬ ‫ما‬ ‫يفيد‬ ‫إبطال‬ ‫هذا‬‫ الزعم‬ ‫حيث‬ ‫قال‬ ‫في‬ رده على الأخنائي: "ثم من قامت عليه الحجة استحق العقوبة، وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب فيها، وكانت منقصة له خافضة له بحسب بعده عن السنة. فإن هذا حكم أهل الضلال، وهو البعد عن الصراط المستقيم وما يستحقه أهله من الكرامة. ثم من قامت عليه الحجة استحق العقوبة وإلا كان بعده ونقصه وانخفاض درجته وما يلحقه في الدنيا والآخرة من انخفاض منزلته وسقوط حرمته وانحطاط درجته هو جزاؤه، وٱللَّٰه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة، وهو عليم حكيم لطيف لما يشاء" اه‫ـ‬, و‫بيّن‬ ‫وفي‬ ‫موطن‬ ‫آخر‬ ‫علة‬ ‫انخفاض‬ ‫المنزلة‬ ‫قائال‫‪:‬‬ "وَنَتِيجَةُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَسَلْبُ كَثِيرٍ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ بِالضَّرَرِ. وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْقَاقَ يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ. فَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَفَاعِلُ الْقَبِيحِ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْآلَامِ كَالنَّارِ فَيُسْلَبُ مِنْ النِّعَمِ وَأَسْبَابِهِ مَا يَكُونُ جَزَاءَهُ. وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ بَلْ كَفَرَهَا أَنْ يُسْلَبَهَا. فَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَزِيدِ. وَالْكُفْرُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يُنْقِصُ النِّعْمَةَ وَلَا يَزِيدُ." انتهى من مجموع الفتاوى.

‫وبهذا ‬‫يتبين‬ ‫خطأ‬ ‫من‬ ‫اعتمد‬ ‫مسألة‬ ‫إثبات‬ ‫اسم‬ ‫المشرك‬ ‫قبل‬ ‫مجيء‬ ‫الرسالة‬ ‫من‬ ‫أصحاب‬ ‫المذاهب ‬‫الثلاثة‬ ‫الأولى‪،‬‬ ‫وخاصة‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثالث‪،‬‬ ‫فقولهم‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫تبلغه‬ ‫الحجة‬ ‫من‬ ‫القبورية‬‫ مشرك‬ ‫لا‬ ‫مسلم‬ ‫ولا ‫كافر‪،‬‬ ‫فرع‬ ‫على‬ ‫هذا‬ ‫الخطأ‪،‬‬ ‫وقولهم‬ ‫هذا‬ ‫محدث‪،‬‬ ‫وخروج‬ ‫على‬ ‫قولي‬‫ أهل‬ ‫العلم‬ ‫اللذين‬ ‫ذكرهما‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫إن‬ ‫كا‬‫ن‬‫ كل‬ ‫كافر‬ ‫مشرك‬ ‫أم‬ ‫لا؟‬ ‫وشبيه‬ ‫بقول‬‫ المعتزلة‬ ‫منزلة‬ ‫بين‬ ‫المنزلتين‪،‬‬ ‫وفيه‬ ‫إضافة‬ ‫لمرتبة‬ ‫ثالثة‬ ‫زائدة‬ ‫على‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫كتاب‬ ‫‫‫ٱللَّٰه‬‫‪:‬‬ ‫مؤمن‬‫ وكافر‬ ‫ومنافق‬‫‪.‬‬

‫وأن‬‫ نسبة‬ ‫هذه‬ ‫المرتبة‬ ‫المحدثة‬ ‫لابن‬ ‫تيمية‬ ‫خطأ‬ ‫عليه‬ ‫وتحريف‬ ‫لمذهبه‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫جملة‬ ‫ما‬ ‫يدل‬ ‫على‬‫ ذلك‬ ‫أنه‬ ‫لما‬ أصل ‫لمسألة‬ ‫الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫المكفرات‬ ‫المتعلقة‬ ‫ببدع‬ ‫الجهمية‬ ‫صرح‬ ‫بكونها‬‫ مبنية‬ ‫على‬ ‫أصلين‫‪:‬‬‫ أن‬ ‫الناس‬ ‫إما‬ ‫مؤمن‬ ‫أو‬ ‫كافر‬ ‫أو‬ ‫منافق‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫التكفير‬ ‫كالوعيد‬ ‫أحكامه‬‫مطلقة‬ ‫ولا‬ ‫تستلزم‬ ‫التعيين‬ ‫إلا‬ ‫فيمن‬ ‫تحققت‬ ‫فيه‬ ‫الشروط‬ ‫وانتفت‬ ‫عنه‬ ‫الموانع‪،‬‬ ‫وصرح‬ ‫بأن‬‫ هذا‬ ‫"فصل‬‫ الخطاب‫" ‬‫في‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وبسط‬ ‫أدلة‬ ‫هذين‬ ‫الأصلين‬ ‫في‬ ‫الكيلانية‪،‬‬ ‫وعندما‬ ‫تعرض‬ ‫لحكم‬‫ محل‬ ‫النزاع‬ ‫أحال‬ ‫عليها‬ ‫في‬ ‫أكثر‬ ‫من‬ ‫موطن‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫أوضحت‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬‫‪.‬‬

ج - مسألة الاشتقاق

‫وقد‬‫ صرح‬ ‫بـأن‬ ‫من‬ ‫وقع‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫سمي‬ ‫مشركا‬ ‫كما‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫وقع‬ ‫في‬ ‫الزنا‬ ‫سمي‬ ‫زانيا‬ ‫أبابطين‬ ‫ومن‬‫تبعه‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬ ‫من‬ ‫أصحاب‬ ‫المذاهب‬ ‫الثلاثة‬ ‫الأولى‪،‬‬ ‫وهذ‬‫ه‬‫ تسمى ‬‫بمسألة‬ ‫الاشتقاق‬‫‪،‬‬‫ وقولهم‬ ‫هذا‬ ‫فرع‬ ‫عن‬ ‫مذهب‬ ‫أصوليي‬ ‫الأشاعرة‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫الجملة‬ ‫ـ‬ ‫لا‬ ‫مذهب‬ ‫أهل‬ ‫السنة‪،‬‬ ‫وقولهم‬‫ هذا‬ ‫مبني‬ ‫على‬ ‫اختلافهم‬ ‫مع‬ ‫المعتزلة‬ ‫حول‬ ‫صفة‬ ‫الكلام‬ ٱللَّٰه ‫عز‬ ‫وجل‪،‬‬ ‫كما‬ ‫ذكر‬ ‫الزركشي‬‫في‬ ‫البحر‬ ‫المحيط‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫لكون‬ ‫المعتزلة‬ ‫ينفون‬ ‫أن‬ ‫يكون‬ ‫المعنى‬ ‫القائم‬ ‫بمحل‬ ‫يجب‬ ‫أن‬‫يشتق‬ ‫له‬ ‫اسم‪،‬‬ ‫بحيث‬ ‫يكون‬ ‫الفعل‬ ‫من‬ ‫الموصوف‬ ‫لا‬ ‫من‬ ‫غيره‪،‬‬ ‫ليتوصلوا‬ ‫بذلك‬ ‫إلى‬ ‫نفي‬ ‫أن‬ ‫يكون ‬‫من‬ ‫قام‬ ‫به‬ ‫الكلام‬ ‫هو‬ ٱللَّٰه ‫عز‬ ‫وجل‪،‬‬ ‫وأنه‬ ‫هو‬ ‫المتكلم‬ ‫به‬ ‫لا ‫غيره‬ ‫من‬ ‫مخلوقاته‬‫‪.‬‬

‫مع ‬‫التنبيه‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫جمهور‬ ‫الأشاعرة‬ ‫لم‬ ‫يطردوا‬ ‫قولهم‬ ‫هذا‬ ‫في‬ ‫باب‬ ‫الأسماء‬ ‫الحسنى‪،‬‬ ‫وقالوا‬ ‫بأنها‬‫ توقيفية‪،‬‬ ‫إلا ‫قليلا ‫منهم‬ ‫كالباقلاني‬ ‫وابن‬ ‫العربي‬ ‫والقرطبي‬ ‫حيث‬ ‫اشتقوا‬ ‫من‬ ‫صفات‬ ٱللَّٰه ‫أسماء‬‫‪.‬‬

‫ويلزم ‬‫بمتابعتهم‬ ‫تسمية‬ ‫كل‬ ‫مصدق‬ ‫مؤمنا‬ ‫اعتمادا‬ ‫على‬ ‫اللغة‪،‬‬ ‫وتسمية‬ ‫كل‬ ‫من‬ ‫صلى‬ ‫صلاة‬ ‫ولم‬ ‫يأت‬‫ بأركانها‬ ‫مصل‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫خالف‬ ‫قوله‬ ‫ﷺ ‫للمسيء‬ ‫في‬ ‫صلاته‫‪:‬‬‫ "‫صل ‬‫فإنك‬ ‫لم‬ ‫تصل‫"‬‫‪،‬‬ ‫وتسمية‬‫ كل‬ ‫من‬ ‫زنت‬ ‫ولو‬ ‫لم‬ ‫تقر‬ ‫على‬ ‫نفسها‬ ‫ولا‬ ‫شهد‬ ‫عليها‬ ‫أربعة‬ ‫شهود‬ ‫زانية‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫تصحيح‬ ‫لفعل‬ ‫القاذف‬ ‫رغم‬ ‫وجوب‬ ‫حد‬ ‫القذف‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫واشتقاق‬ ‫اسم‬ ‫الماكر‬ ‫والمخادع‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫تعالى‬ ‫بناء‬ ‫على‬ ‫قوله ‬‫سبحانه‬ {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} و {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}.

‫وأما‬‫ أهل‬ ‫السنة‬ ‫فيفرقون‬ ‫بين‬ ‫الأسماء‬ ‫اللغوية‬ ‫والأسماء‬ ‫الشرعية‬ ‫(‫ومن‬‫ ذلك‬ ‫أسماء‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫الحسنى‬ ‫المعلومة ‬‫بالوحي‫)‬‫‪،‬‬‫ ولما‬ ‫كان‬ ‫السم‬ ‫المؤمن‬ ‫والمصلي‬ ‫والزاني‬ ‫معنى‬ ‫لغوي‬ ‫وآخر‬ ‫شرعي‪،‬‬ ‫والأول‬ ‫أوسع‬ ‫وأعم‬ ‫من‬ ‫الثاني‪،‬‬ ‫والثاني‬ ‫أضيق‬ ‫وأخص‬ ‫من‬ ‫الأول‪،‬‬ ‫كانت‬ ‫الأحكام‬ ‫الشرعية‬ ‫المتعلقة‬‫ بنوع‬ ‫هذه‬ ‫الأسماء‬ ‫منوطة‬ ‫بحقائقها‬ ‫الشرعية‬ ‫لا ‫بحقائق‬‫ها‬‫ اللغوية‪،‬‬ ‫ولذا‬ ‫كان‬ ‫للتسمية‬ ‫بالمؤمن‪،‬‬‫ والمصلي‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫وقعت‬ ‫في‬ ‫الزنا‬ ‫بالزانية‬ ‫والفاسقة‬ ‫وإيقاع‬ ‫الحد‬ ‫عليها‫‪:‬‬‫ شروط‬ ‫وموانع‬‫‪.‬‬

‫وكذلك ال‬‫أمر‬ ‫مع‬ ‫من‬ ‫وقع‬ ‫في‬ ‫الشرك‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫إخراج‬ ‫أحد‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫القبلة‬ ‫عن‬ ‫الإسلام‬ ‫هو‬ ‫حكم‬ ‫شرعي‬‫ لا ‫حكم‬ ‫لغوي‬ ‫ولا‬ ‫عقلي‪،‬‬ ‫وإلا‬ ‫لزم‬ ‫طرد‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫سائر‬ ‫المكفرات‪،‬‬ ‫ويقع‬ ‫بذلك‬ ‫وصد‬ ‫باب ‬‫الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫جملة‬ ‫وتفصيلا‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫مذهب‬ ‫الخوارج‬‫‪.‬‬

‫وبهذا ‬‫يتبين‬ ‫خطأ‬ ‫من‬ ‫فرع‬ ‫قوله‬ ‫على‬ ‫هذه‬ ‫المسألة‬ ‫من‬ ‫أصحاب‬ ‫المذاهب‬ ‫الثلاثة‬ ‫الأولى‬‫‪.‬‬

وخلاصة القول في هذه المذاهب: أن هذا الخلاف غير معتبر ولا حظ له من النظر, وأن ما استقام من هذه المذاهب مع قول أهل السنة في الأصلين هو الحق, وهو ما ينطق مع المذهب الرابع, وما كان مبنيا على غيرها فهو فاسد أصوله, وهو ما ينطبق على غيره من المذاهب. قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه ٱللَّٰه: "عجبت لمن لم ترك الأصول وطلب الفصول", وصاغها المتأخرون بقولهم: من حرم الأصول حرم الوصول. ومن كان هذا حاله صار عرضة للوقوع فيما حذر منه ابن تيمية في الصارم السملول بقوله:"وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتصية أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة" اه‫ـ, ‫وهو‬ ‫ما‬ ‫وقع‬ ‫فيه‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬ ‫عند‬ ‫حكايتهم‬ ‫لمذاهب‬ ‫العلماء.

‫وأنبه‬‫ هنا‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫متأخري‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫فضلا ‫عن‬ ‫المعاصرين‪،‬‬ ‫تدخل‬ ‫عليهم‬ ‫بعض‬ ‫أقوال ‬‫أهل‬ ‫البدع‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫لا ‫يشعرون‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫عبر‬ ‫كتب‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‬ ‫التي‬ ‫غلب‬ ‫على‬ ‫أصحابها‬ ‫الاعتزال ‬‫أو‬ ‫الأشعرية‬ ‫أو‬ ‫الماتردية‪،‬‬ ‫والأمثلة‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫كثيرة‬ ‫جدا‪،‬‬ ‫فعمد‬ ‫كتب‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‬ ‫كما‬‫ ذكر‬ ‫ابن‬ ‫خلدون‬ ‫ـ‬ ‫أي‬ ‫التي‬ ‫تدور‬ ‫في‬ ‫فلكها‬ ‫أغلب‬ ‫كتب‬ ‫الأصول‬ ‫ـ‬ ‫أربعة‬ ‫اثنان‬ ‫لمعتزليين‫‪:‬‬ ‫القاضي‬‫ عبد‬ ‫الجبار‬ ‫وأبي‬ ‫الحسين‬ ‫البصري‪،‬‬ ‫واثنان‬ ‫ألشعريين‫‪:‬‬‫ الجويني‬ ‫والغزالي‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫أعظم‬‫ من‬ ‫اعتنى‬ ‫بالتنبيه‬ ‫على‬ ‫هذا‬ ‫شيخ‬ ‫الإسلام‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫متعلق‬ ‫بما‬ ‫يسمى‬ ‫ببناء‬ ‫الأصول‬‫ على‬ ‫الأصو‬ل,‪‬‬‫ أي ‫بناء‬ ‫أصول‬ ‫الفقه‬ ‫على‬ ‫أصول‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫أي‬ ‫عقائدهم‬ ‫الكلامية‬‫‪.‬

‫مع ‬‫التنبيه‬ ‫على‬ ‫وجود‬ ‫شبه‬ ‫أخرى‬ ‫غير‬ ‫هذا‬ ‫الذي‬ ‫ذكرت‪،‬‬ ‫معظمها‬ ‫يرجع‬ ‫إلى‬ ‫ما‬ ‫حقيقته‬ ‫تحريف‬‫ مذهب‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‪،‬‬ ‫ككلامه‬ ‫في‬ ‫المسائل‬ ‫الظاهرة‬ ‫والمسائل‬ ‫الخفية‪،‬‬ ‫وفي‬ ‫الكفر‬ ‫المعذب‬ ‫عليه‪،‬‬‫ وقد‬ ‫فصلت‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‪،‬‬ ‫و‬‫اكتفيت‬‫ ههنا‬ ‫بذكر‬ ‫أصول‬ ‫المسألة‬ ‫المتعلقة‬ ‫بالأصلين‪،‬‬‫ التي‬ ‫اعتمد‬ ‫عليها‬ ‫أناس‬ ‫من‬ ‫المتقدمين‬ ‫والمتأخرين‪،‬‬ ‫لكثرة‬ ‫غفلة‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬‫ عن‬ ‫جذورها‬ ‫الكلامية‬‫‪.‬‬

وفي المقابل: فمن أقوال العاذرين بالجهل في الشرك التي لا حظ لها من النظر: قول ابن حزم في الفصل: "وأن من قال أن ٱللَّٰه عز وجل هو فلان الإنسان بعينه أو ... أو أن بعد محمد ص نبيا غير عيى بن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد, ولو أمكن أن يوجد أحد يدين بهذا لم يبلغه قط خلافه لما وجب تكفيره حتى تقوم عليه الحجة" اه‫ـ‬, وطرده لهذا وفق أصوله الظاهرية, وهذا وإن كان من جهة التأصيل لا من جهة الطبيق, فلا يسلم به, وهذا الذي استبعد وجوده, وجد من يثبت وجوده من المعاصرين فضلا عن إمكانية وقوعه, وهذا قول شاذ.

‫ومثله‬‫ من‬ ‫يجعل‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫عكازة‬ ‫ليدفع‬ ‫بها‬ ‫تكفير‬ ‫المعين‬ ‫مطلقا‬ ‫عن‬ ‫المنتسب‬‫ين‬‫ للإسلام‬‫‪.‬‬

‫وقريب‬‫ منه‬ ‫من‬ ‫ينفي‬ ‫الذم‬ ‫عن‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫مطلقا‪،‬‬ ‫من‬ ‫غير‬ ‫تفريق‬ ‫بين‬ ‫الذم‬ ‫الشرعي‬ ‫للأعيان‬ ‫الموقوف‬‫ على‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‪،‬‬ ‫وبين‬ ‫الذم‬ ‫العقلي‬ ‫الذي‬ ‫هو‬ ‫تقبيح‬ ‫عقلي‪،‬‬ ‫وهذا ‬‫النفي‬ ‫المطلق‬ ‫للذم‬ ‫لا‬ ‫يتخرج‬ ‫على‬ ‫قول‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫في‬ ‫مسألة‬ ‫التحسين‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقل‬‫ي‪،‬‬ ‫وإنما‬‫ يتخرج‬ ‫على‬ ‫قول‬ ‫الأشاعرة‬ ‫نفاة‬ ‫التحسين‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫لا ‫حسن‬ ‫عندهم‬ ‫ولا‬ ‫قبيح‬ ‫إلا‬‫ بالأمر‬ ‫والنهي‬ ‫الشرعي‬‫‪.‬‬

‫والأسوأ‬‫ من‬ ‫هذا‬ ‫كله‬ ‫تقريرات‬ ‫ابن‬ ‫جرجيس‬ ‫حول‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫فهذه‬ ‫ظلمات‬ ‫بعضها‬ ‫فوق‬ ‫بعض‪،‬‬‫ حيث‬ ‫جعل‬ ‫مانع‬ ‫الجهل‬ ‫مانعا‬ ‫من‬ ‫إطلاق‬ ‫حكم‬ ‫الكفر‬ ‫الأكبر‬ ‫على‬ ‫الشركيات‬ ‫واعتبارها‬ ‫من ‬‫الشرك‬ ‫الأصغر‪،‬‬ ‫واشتراط‬ ‫العناد‬ ‫لتكفير‬ ‫المعين‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫الذي‬ ‫تدور‬ ‫حوله‬ ‫ردود‬ ‫أبابطين‬ ‫وعبد ‬‫اللطيف‬ ‫بن‬ ‫عبد‬ ‫الرحمن‬ ‫عليه‬‫‪.‬‬

ح - أصناف الناس ثلاثة: مؤمن وكافر ومنافق

قال ابن تيمية في بداية كتابه الإيمان الأوسط - منبها على أهمية هذا الأصل وعلاقتها بتكفير أصحاب التدع الكفرية: "فنقول: ما علم بالكتاب والسنة والإجماع، وهو المنقول نقلاً متواتراً عن النبي - صلى ٱللَّٰه‬ عليه وسلم -، بل هو من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام دين النبي - صلى ٱللَّٰه‬ عليه وسلم - أنَّ الناس كانوا على عهده بالمدينة ثلاثة أصناف" ثم سرد أدلة ذلك من كتاب ٱللَّٰه‬ بتوسع, إلى أن ختم ذلك بقوله: فَهَذَا "أَصْلٌ" يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي "مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ" - لِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ - لَمْ يَلْحَظُوا هَذَا الْبَابَ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْحُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ؛ بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ: قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا جَاهِلًا ضَالًّا عَنْ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ (الفتاوى ٧ /٤٦١-٤٧٢), فدل هذا على أنها ثلالثة ولا رابع لها.

وقال في موطن آخر: "وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ بِذِكْرِ أَصْلَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْكَافِرَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا مُنَافِقًا فَإِنَّ اللَّهَ مُنْذُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ صَارَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ بِهِ مُظْهِرٌ الْكُفْرَ وَمُنَافِقٌ مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَآيَتَيْنِ فِي الْكُفَّارِ؛ وَبِضْعَ عَشَرَ آيَةً فِي الْمُنَافِقِينَ...", إلى أن قال: "وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَهْلُ الْبِدَعِ فِيهِمْ الْمُنَافِقُ الزِّنْدِيقُ فَهَذَا كَافِرٌ وَيَكْثُرُ مِثْلُ هَذَا فِي الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة فَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً... وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ حَتَّى أَخْطَأَ مَا أَخْطَأَ مِنْ السُّنَّةِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا مُنَافِقٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ يَكُونُ بِهِ فَاسِقًا أَوْ عَاصِيًا؛ وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا مُتَأَوِّلًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ؛ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ. وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَالَةَ تَكُونُ كُفْرًا: كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَحْلِيلِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ الْقَائِلُ بِهَا قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخِطَابُ وَكَذَا لَا يُكَفَّرُ بِهِ جَاحِدُهُ كَمَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فَهَذَا لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بِجَحْدِ شَيْءٍ مِمَّا أَنْزَلَ عَلَى الرَّسُولِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ وَمَقَالَاتُ الْجَهْمِيَّة هِيَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَإِنَّهَا جَحْدٌ لِمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَيْهِ وَلِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ" (مجموع الفتاوى ٣ /٣٥٢-٣٥٥), وهذا الأصل الثاني قد بناه على دلالة العام المطلق في الأحوال, وقد سبق بيان ذلك, وبسط القول في كلا الأصلين في رسالته الكيلانية [انظر: مجموع الفتاوى ١٢ /٤٦٦-٥٠١], وكل من كتب من المعاصرين في بيان مذهب ابن تيمية في التكفير, أيا كان المذهب الذي نسبوه إليه, قد غفل عن أصليه هذين.

‫فإن ‬‫اعترض‬ ‫معترض‬ ‫وقال‬ ‫أن‬ ‫ك‬‫لامه‬‫ في‬ ‫جميع‬ ‫ذلك‬ ‫متعلق‬ ‫بأصحاب‬ ‫البدع‬ ‫الكفرية‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫خارج‬‫ محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫فجوابه‫‪:‬‬‫ أن‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫سياق‬ ‫حديثه‬ ‫عن‬ ‫شركيات‬ ‫القبورية‬ ‫في‬ ‫مواطن‬ ‫متعددة‪،‬‬‫ أحال‬ ‫على‬ ‫الكيلانية‪،‬‬ ‫واستدل‬ ‫على‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫لمن‬ ‫لم‬ ‫يتمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬‫ الرسالية‪،‬‬ ‫وعلى‬ ‫أن‬ ‫التكفير‬ ‫المطلق‬ ‫لمن‬ ‫وقع‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫من‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫لا‬ ‫يستلزم‬ ‫تكفير ‬‫المعين‬ ‫إلا‬ ‫من‬ ‫تحققت‬ ‫فيه‬ ‫الشروط‪،‬‬ ‫بنفس‬ ‫الأدلة‬ ‫والتعليلات‬ ‫التي‬ ‫في‬ ‫الكيلانية‪،‬‬ ‫وبناها‬ ‫على‬‫ نفس‬ ‫الأصلين‪،‬‬ ‫وشواهد‬ ‫ذلك‬ ‫كثيرة‬ ‫قد‬ ‫بينتها‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‪،‬‬ ‫إلا ‫أن‬ ‫إعماله‬ ‫للأصل‬ ‫الثاني ‬‫من‬ ‫فصل‬ ‫الخطاب‬ ‫في‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫أوضح‬ ‫من‬ ‫إعماله‬ ‫للفصل‬ ‫الأول‪،‬‬ ‫وأبين‬ ‫ههنا‬ ‫وجه‬ ‫إعماله ‬‫لهذا‬ ‫الأصل‬ ‫في‬ ‫محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫وما‬ ‫يدل‬ ‫على‬ ‫أنه‬ ‫قد‬ ‫فرع‬ ‫حكم‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫على‬ ‫هذا‬ ‫الأصل‬‫‪:‬‬

وأما شواهد ذلك من كلامه:

‫وأذكرها ‬‫ههنا‬ ‫بشيء‬ ‫من‬ ‫الإجمال‫‪:‬‬‫ فإنك‬ ‫تجد‬ ‫في‬ ‫مجموع‬ ‫كلامه‬ ‫عند‬ ‫حديثه‬ ‫عن‬ ‫تكفير‬ ‫القبورية‬ ‫في ‬‫فتاويه‬ ‫في‬ ‫القلندرية‬ ‫ورافضة‬ ‫زمانه‬ ‫وفي‬ ‫رده‬ ‫على‬ ‫البكري‬ ‫وغيرها‪،‬‬ ‫احتجاجا‬ ‫بنفس‬ ‫الأدلة‬ ‫التي‬‫ في‬ ‫فتواه‬ ‫في‬ ‫الكيلانية‬ ‫وفي‬ ‫الماردينية‬ ‫وغيرها‬ ‫المتعلقة‬ ‫بأصحاب‬ ‫البدع‬ ‫الكفرية‬‫‪:‬‬

‫كحديث ‬‫"إن ٱللَّٰه‬ ‫تجاوز‬‫ عن‬ ‫أمتي‬ ‫الخطأ‫"‬‫ ـ‬ ‫فتأمل‬ ‫هذا‬ ‫ـ‪،‬‬ ‫وحديث‬ ‫الرجل‬ ‫الذي‬ ‫شك‬ ‫في‬ ‫قدرة‬ ٱللَّٰه‬ ‫على ‬‫بعثه‬ ‫وغفر‬ ٱللَّٰه‬ ‫له‬ ‫لمخافته‬ ‫إياه‪،‬‬ ‫وإجماع‬ ‫الفقهاء‬ ‫على‬ ‫عدم‬ ‫تكفير‬ ‫مستحل‬ ‫المحرمات‬ ‫إذا‬ ‫كان ‬‫مقيما‬ ‫ببادية‬ ‫بعيدة‬ ‫أو‬ ‫حديث‬ ‫العهد‬ ‫بإسلام‪،‬‬ ‫وغيرها‬‫‪.‬‬

‫وتجد ‬‫في‬ ‫مجموع‬ ‫كلامه‬ ‫المتعلق‬ ‫بالقبورية‬ ‫الإحالة‬ ‫على‬ ‫موط‬ ‫ن‬‫آخر‬ ‫بسط‬ ‫فيه‬ ‫الكلام‬ ‫في‬ ‫قواعد‬ ‫ذلك‪،‬‬‫ وسماها‬ ‫فيها‬ ‫بـ‫"‬‫قاعدة ‬‫التكفير‫"‬‫‪،‬‬‫ وسماها‬ ‫في‬ ‫غيرها‬ ‫بأسماء‬ ‫أخرى‬ ‫تدل‬ ‫على‬ ‫مضمونها‬ ‫ـ‬ ‫كما ‬‫هي‬ ‫عادته‬ ‫في‬ ‫تسميته‬ ‫لكتبه‬ ‫أسماء‬ ‫مختلفة‬ ‫متقاربة‬ ‫ـ‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫تنطبق‬ ‫تلك‬ ‫لأوصاف‬ ‫إلا‬ ‫على‬ ‫الكيلانية‬‫‪.‬‬

كما أنه في مجموع كلامه في القبورية فرق بين المقالة والقائل, وبين التكفير المطلق وتكفير المعين بشروطه, تماما كما فعل ذلك في كلامه في أصحاب البدع الكفرية كما في الكيلانية وغيرها. وذكر جميع هذه الشواهد من كلامه تفصيلا تجدخ في كشف الالتباس.

‫وجميع ‬‫ذلك‬ ‫يعني‬ ‫أنه‬ ‫جرى‬ ‫على‬ ‫قاعدة‬ ‫واحدة‬ ‫في‬ ‫التكفير‪،‬‬ ‫ولم‬ ‫يفرق‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫بين ‬‫القبورية‬ ‫وأصحاب‬‫ البدع‬ ‫الكفرية‪،‬‬ ‫وإن‬ ‫ورد‬ ‫في‬ ‫كلامه‬ ‫فروقا‬ ‫باعتبارات‬ ‫أخرى‬ ‫قد‬ ‫بينتها‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬‫‪.‬‬‫ وهذا‬ ‫يعني‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يكفرهم‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫من‬ ‫القبورية‬ ‫قد‬ ‫أثبت‬ ‫لهم‬ ‫الإسلام‪،‬‬ ‫ويدل‬ ‫على‬‫ ذلك‬ ‫من‬ ‫مجموع‬ ‫كلامه‬ ‫احتجاجه‬ ‫بحديث‬ ‫"إن ‫ٱللَّٰه ‫تجاوز‬ ‫عن‬ ‫أمتي‬ ‫الخطأ‫"‬‫‪،‬‬‫ والحديث‬ ‫متعلق‬‫ بأهل‬ ‫القبلة‬ ‫من‬ ‫أمة‬ محمد‬ ﷺ‪،‬‬ ‫ووصفه‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫بأن‬ ‫معهم‬ ‫إيمان‬ ‫ينجيهم‬ ‫يوم‬ ‫القيامة‪،‬‬ ‫وأصرح ‬‫أقواله‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫قوله‬ ‫ـ‬ ‫بعد‬ ‫أن‬ ‫ذكر‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫أطاع‬ ‫الشيطان‬ ‫في‬ ‫معصية‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫صار‬ ‫فيه‬ ‫من‬ ‫الشرك ‬‫بالشيطان‬ ‫بقدر‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫هذا‬ ‫قد‬ ‫يكون‬ ‫شركا‬ ‫أكبر‬ ‫وقد‬ ‫يكون‬ ‫شركا‬ ‫أصغر‬ ‫ـ‬‫‪:‬‬ "وَأما إِن اتخذ الْإِنْسَان مَا يهواه إِلَهًا من دون ٱللَّٰه وأحبه كحب ٱللَّٰه فَهَذَا شرك اكبر والدرجات فِي ذَلِك مُتَفَاوِتَة وَكثير من النَّاس يكون مَعَه من الْإِيمَان بِاللَّه وتوحيده مَا ينجيه من عَذَاب ٱللَّٰه وَهُوَ يَقع فِي كثير من هَذِه الْأَنْوَاع وَلَا يعلم أَنَّهَا شرك بل لَا يعلم أَن ٱللَّٰه حرمهَا وَلم تبلغه فِي ذَلِك رِسَالَة من عِنْد ٱللَّٰه وَٱللَّٰه تَعَالَى يَقُول وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا فَهَؤُلَاءِ يكثرون جدا فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة الَّتِي تظهر فِيهَا فَتْرَة الرسَالَة بقلة القائمين بِحجَّة ٱللَّٰه فَهَؤُلَاءِ قد يكون مَعَهم من الْإِيمَان مَا يرحمون بِهِ وَقد لَا يُعَذبُونَ بِكَثِير مِمَّا يعذب بِهِ غَيرهم مِمَّن كَانَت عَلَيْهِ حجَّة الرسَالَةفَيَنْبَغِي أَن يعرف أَن اسْتِحْقَاق الْعباد للعذاب بالشرك فَمَا دونه مَشْرُوط ببلاغ الرسَالَة فِي أصل الدَّين وفروعه" (جامع الرسائل ٢ /٢٩٣).

ويؤكد إثباته الإسلام لمحل النزاع, تسميته لهم:

وأما عن وجه إعماله لهذا الأصل:

‫فأقسام ‬‫الناس‬ ‫مؤمن‬ ‫ظاهرا‬ ‫وباطنا‪،‬‬ ‫وكافر‬ ‫ظاهرا‬ ‫وباطنا‪،‬‬ ‫ومنافق‬ ‫وهو‬ ‫كافر‬ ‫في‬ ‫الباطن‬ ‫ومؤمن ‬‫في‬ ‫الظاهر‪،‬‬ ‫أي‬ ‫تجري‬ ‫عليه‬ ‫أحكام‬ ‫أهل‬ ‫الإسلام‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فالناس‬ ‫في‬ ‫الأحكام‬ ‫الظاهرة‪،‬‬ ‫إما ‬‫مسلم‬ ‫أو‬ ‫كافر‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫فمن‬ ‫لم‬ ‫يحكم‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫على‬ ‫عينه‬ ‫بالتكفير‪،‬‬ ‫فهو‬ ‫مسلم‬ ‫عنده‫‪.‬‬‫ فبان‬ ‫بهذ‬‫ا ‬‫فساد‬ ‫من‬ ‫يعتبر‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫صنفا‬ ‫رابعا‬‫‪:‬‬‫ وهو‬ ‫المشرك‬ ‫الذي‬ ‫لا ‫هو‬ ‫مسلم‬ ‫ولا ‫هو‬ ‫كافر‪،‬‬ ‫فهذا ‬‫قول‬ ‫محدث‪،‬‬ ‫مبني‬ ‫على‬ ‫فهم‬ ‫قوله‬ ‫بإثبات‬ ‫الاسم‬ ‫دون‬ ‫الحكم‬ ‫قبل‬ ‫بلوغ‬ ‫الحجة‬ ‫على‬ ‫وفق‬ ‫أصول‬‫ المعتزلة‬ ‫في‬ ‫التحيسن‬ ‫والتقبيح‬ ‫العقلي‬ ‫كما‬ ‫سبق‬ ‫بيانه‪،‬‬ ‫ولا ‫يتخرج‬ ‫على‬ ‫أحد‬ ‫مذهبي‬ ‫أهل‬‫ العلم‬ ‫في‬ ‫إن‬ ‫كا‬ن‬ ‫كل‬ ‫مشرك‬ ‫كافر‬ ‫وليس‬ ‫كل‬ ‫كافر‬ ‫مشرك‪،‬‬ ‫أو‬ ‫أن‬ ‫كل‬ ‫كافر‬ ‫فهو‬ ‫مشرك‬ ‫وكل‬‫ مشرك‬ ‫فهو‬ ‫كافر‪،‬‬ ‫ونسبته‬ ‫لابن‬ ‫تيمية‬ ‫تحريف‬ ‫لا‬ ‫يصح‬ ‫لمخالفته‬ ‫لأصله‬ ‫هذا‬ ‫وللعديد‬ ‫من‬ ‫أقواله‪،‬‬‫ فبان‬ ‫بهذا‬ ‫أنه‬ ‫لا‬ ‫يقول‬ ‫بقول‬ ‫أصحاب‬ ‫المذهب‬ ‫الثالث‪،‬‬ ‫وأنه‬ ‫لا‬ ‫يصح‬ ‫نسبته‬ ‫إليه‬‫‪.‬‬

‫ومن ‬‫ادعى‬ ‫أن‬ ‫مراده‬ ‫نفي‬ ‫التكفير‬ ‫الأخروي‬ ‫لا‬ ‫دنيوي‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫اصطلاح‬ ‫حادث‬ ‫لا‬ ‫يقول‬ ‫به‬ ‫أحد‬ ‫من‬‫ الفقهاء‪،‬‬ ‫وتحريف‬ ‫لكلامه‪،‬‬ ‫لان‬ ‫التكفير‬ ‫عند‬ ‫جميعهم‬ ‫ـ‬ ‫وصرح‬ ‫به‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫باب‬ ‫"‬‫الأسماء‬‫"‬‫‪،‬‬‫ بينما‬ ‫الوعيد‬ ‫الأخروي‬ ‫من‬ ‫باب‬ ‫"‫الأحكام‬‫"‬‫‪،‬‬‫ ويدفعه‬ ‫هذا‬ ‫الأصل‬ ‫الذي‬ ‫بنى‬ ‫عليه‬ ‫المسألة‪،‬‬‫ وصريح‬ ‫قوله‬ ‫في‬ ‫آخر‬ ‫فتواه‬ ‫في‬ ‫رافضة‬ ‫زمانه‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫ن‬‫وصفهم‬ ‫بكونهم‬ ‫مشركين‬ ‫ـ‬ بكون التفريق بين المطلق والمعين جار على كلا البابين: وَأَمَّا تَكْفِيرُهُمْ وَتَخْلِيدُهُمْ: فَفِيهِ أَيْضًا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ... وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي يَقُولُونَهَا الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُفْرٌ وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِينَ هِيَ كُفْرٌ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرْت دَلَائِلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لَكِنْ تَكْفِيرُ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمْ وَالْحُكْمُ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِ التَّكْفِيرِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ. فَإِنَّا نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَلَا نَحْكُمُ لِلْمُعَيَّنِ بِدُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْعَامِّ حَتَّى يَقُومَ فِيهِ الْمُقْتَضَى الَّذِي لَا مَعَارِضَ لَهُ. وَقَدْ بَسَطْت هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي "قَاعِدَةِ التَّكْفِيرِ"... , ثم علل واستدل بنفس الأدلة التي يذكرها عند حديثه عن أصحاب التدع الكفرية ومنكري الشرائع المتواترة, إلى أن قال: "فَإِنَّ حُكْمَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَكُونُ قَدْ بَلَغَتْهُ النُّصُوصُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا يَرَاهُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ بَعَثَ بِذَلِكَ فَيُطْلِقُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَيُكَفِّرُ مَتَى قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا؛ دُونَ غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (الفتاوى ٢٨/ ٥٠٠-٥٠١). فبان بهذا أنه لا يقول بالمذهب الأول ولا الثاني, وأنه لا يصح نسبة ذلك إليه.

‫فإن‬‫ قال‬ ‫قائل‬ ‫أن‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫ـ‬ ‫ورافضة‬ ‫زمانه‬ ‫منهم‬ ‫جميعهم‬ ‫لوصفه‬ ‫إياهم‬ ‫بكونهم‬ ‫مشركين‬ ‫ـ‬ ‫عند‬‫ ابن‬ ‫تيمية‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫النفاق‬ ‫الأكبر‫‪.‬‬‫ وهذا‬ ‫أيضا‬ ‫تحريف‪،‬‬ ‫فإن‬ ‫كانوا‬ ‫عنده‬ ‫كذلك‪،‬‬ ‫فكيف‬ ‫ساغ‬ ‫له‬‫ أن‬ ‫يستدل‬ ‫بحديث‫‪:‬‬‫ "‬إن ‫ٱللَّٰه‬ ‫تجاوز‬ ‫عن‬ ‫أمتي‬ ‫الخطأ‫"‬‫‪،‬‬‫ ويقول‬ ‫عنهم‬ ‫أنه‬ ‫قد‬ ‫يكون‬ ‫عند‬ ‫الواحد‬ ‫منهم ‬‫إي‬‫مان‬‫ قليل‬ ‫ينجو‬ ‫به‬ ‫يوم‬ ‫القيامة؟‬ ‫!! ‬‫وهذا‬ ‫فضلا‬ ‫عن‬ ‫تصريحه‬ ‫بخلافه‬ ‫في‬ ‫منهاج‬ ‫السنة‬ ‫في‬ ‫قوله‬‫‪:‬‬‫ "فلا ‫يكون‬ ‫رافضي‬ ‫ولا ‫جهمي‬ ‫إلا‬ ‫منافقا‬ ‫أو‬ ‫جاهلا‬ ‫بما‬ ‫جاء‬ ‫به‬ ‫الرسول‬ ‫صلى‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫عليه‬ ‫وسلم‬‫"‬ (١٦١/٥), وقوله: ‫"‬فإن‬‫ الإمامية‬ ‫مع‬ ‫فرط‬ ‫جهلهم‬ ‫وضلالهم‬ ‫فيهم‬ ‫خلق‬ ‫مسلمون‬ ‫باطنا‬ ‫وظاهرا‪،‬‬‫ ليسوا‬ ‫زنادقة‬ ‫منافقين‪،‬‬ ‫لكنهم‬ ‫جهلوا‬ ‫وضلوا‬ ‫واتبعوا‬ ‫أهواءهم‪،‬‬ ‫وأما‬ ‫أولئك‬ ‫فأئمتهم‬ ‫الكبار‬‫ العارفون‬ ‫بحقيقة‬ ‫دعوتهم‬ ‫الباطنية‬ ‫زنادقة‬ ‫منافقون‪،‬‬ ‫وأما‬ ‫عوامهم‬ ‫الذين‬ ‫لم‬ ‫يعرفوا‬ ‫أمرهم‬ ‫فقد ‬‫يكونون‬ ‫مسلمي‬ن‬‫"‬ (٤٥٢/٢).

‫فإن‬‫ قال‬ ‫قائل‬ ‫هذا‬ ‫يتعارض‬ ‫مع‬ ‫قوله‬ ‫بـ‫"‬‫التالزم‬‫ بين‬ ‫الظ‫اهر‬‫ والباطن‫"‬‫‪،‬‬‫ وأن‬ ‫"‬التوحيد‬‫ والشرك‬ ‫لا ‬‫يجتمعان‫"‬‫‪،‬‬ ‫ومقتضى‬ ‫ذلك‬ ‫نفي‬ ‫اسم‬ ‫الإسلام‬ ‫عن‬ ‫محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫فجوابه‬ ‫أن‬ ‫التعارض‬ ‫موجود‬ ‫في ‬‫ذهن‬ ‫من‬ ‫حرف‬ ‫مذهبه‬ ‫وأهمل‬ ‫أصوله‬ ‫في‬ ‫المسألة‬ ‫وتكلف‬ ‫له‬ ‫أصولا ‫أخرى‬ ‫لم‬ ‫يعملها‬ ‫على‬ ‫الوجه‬‫ الصحيح‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫بيان‬ ‫موجز‬ ‫لعدم‬ ‫وجود‬ ‫هذا‬ ‫التعارض‬ ‫المزعوم‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫إع‬‫مالها ‬‫على‬ ‫الوجه ‬‫الصحيح‬ ‫لا‬ ‫يتعارض‬ ‫مع‬ ‫ما‬ ‫سبق‪،‬‬ ‫وتفصيله‬ ‫موجود‬ ‫في‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‬ ‫وفي‬ ‫مواطن‬ ‫متعددة‬‫‪:‬‬

‫أما ‬‫عن‬ ‫عدم‬ ‫معارضة‬ ‫ذلك‬ ‫عنده‬ ‫لكون‬ ‫"‬التوحيد ‬‫والشرك‬ ‫لا‬ ‫يجتمعان"‬‫‪:‬‬

‫فيدل‬‫ على‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫تقريرات‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫أنه‬ ‫في‬ ‫فتواه‬ ‫السابقة‬ ‫في‬ ‫رافضة‬ ‫زمانه‬ ‫قال‬ ‫قبلها‫‪:‬‬ "وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْمُلْكِ لَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ. فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْمَقَابِرِ الَّتِي اُتُّخِذَتْ أَوْثَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ" (مجموع الفتاوى ٢٨ /٤٨٥ ), وهذا الكلام يتضمن معنى أن "التوحيد والشرك لا يجتمعان", ‫ومع‬ ‫ذلك‬ ‫لم‬ ‫يمنعه‬ ‫مما‬ ‫قاله‬ ‫سابقا‪،‬‬ ‫ووجه‬ ‫ذلك‬ ‫أنهم‬ ‫جاؤوا‬ ‫بالتوحيد‬‫ المجمل‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫إثبات‬ ‫ألا ‫يستحق‬ ‫أحد‬ ‫العبادة‬ ‫سوى‬ ‫هللا‪،‬‬ ‫وضلوا‬ ‫في‬ ‫التوحيد‬ ‫المفصل‪،‬‬ ‫ولم‬‫ يتمكنوا‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫التي‬ ‫يكفر‬ ‫مخالفها‪،‬‬ ‫فهم‬ ‫وإن‬ ‫جاؤوا‬ ‫بسبب‬ ‫الكفر‬ ‫وهو‬ ناقض التوحيد, إلا أن "السبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه" كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٤٨٤/١٢, فسلم لهم التوحيد المجمل, بخلاف من تمكن من العلم ‫بالحجة‬ ‫الرسالية‬ ‫فأعرض‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫يكفره‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫على‬ ‫التعيين‪،‬‬ ‫وكذا‬ ‫من‬ ‫لم‬ ‫يأت‬ ‫بالتوحيد‬ ‫المجمل ‬‫كا‬لإسماعيلية‪،‬‬ ‫فهذا‬ ‫أيضا‬ ‫يكفره‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫على‬ ‫التعيين‬ ‫ظاهرا‬ ‫وباطنا‪،‬‬ ‫ويحكم‬ ‫عليه‬ ‫بالنفاق‬‫ الأكبر‬ ‫إن‬ ‫لم‬ ‫يظهر‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يشترط‬ ‫لتكفير‬ ‫هذا‬ ‫الصنف‬ ‫بلوغ‬ ‫الحجة‬ ‫لعدم‬ ‫دخولهم‬ ‫في‬ ‫قول‬‫ النبي‬ ﷺ‫‪:‬‬‫ "‫إن ‫ٱللَّٰه‬ ‫تجاوز‬ ‫عن‬ ‫أمتي‬ ‫الخطأ‫"‬‫‪،‬‬‫ وسيأتي‬ ‫بيان‬ ‫وجه‬ ‫الاستدلال‬ ‫بهذا‬ ‫الحدي‬‫ث‪،‬‬ ‫وهذان‬‫ الصنفان‬ ‫الأخير ان‬ ‫ليسوا‬ ‫من‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬‫‪.‬‬

انظر: ما قاله في معنى هذا عند حديثه عن الإيمان المجمل والإيمان المفصل كما في مجموع الفتاوى ٢/ ٣٢٧-٣٢٨ و ١٢ /٤٩٤, وأن في الضلال المنتسبين للإسلام من خلط التوحيد بالشرك كما في مجموع الفتاوى ١٤ /٢٨٢, وأن الكثير من الناس ممن وقع في الشرك الأكبر والأصغر يكون معه الإيمان والتوحيد (أي المجملين) ما ينجيه من عذاب ‫ٱللَّٰه‬ كما في جامع الرسائل ٢ /٢٩٣, وسبق نقله.

‫وأما‬‫ عن‬ ‫عدم‬ ‫معارضة‬ ‫ذلك‬ ‫عنده‬ ‫لـ‬"‬‫لتلازم‬‫ بين‬ ‫الظاهر‬ ‫والباطن‬"‬‫‪:‬‬

‫فيدل‬‫ على‬ ‫ذلك‬ ‫فتواه‬ ‫في‬ ‫القلندرية‬ ‫حيث‬ ‫قال‬ ‫في‬ ‫بيان‬ ‫حالهم‬:‬‬ "... أَوْ يَدَيْنِ بِدِينِ يُخَالِفُ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا: مِثْلُ...", ثم ذكر ما هم واقعون فيه من شركيات وكفريات ظاهرة إلى أن قال: "فَكُلُّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ إنْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ؛ وَمُنَافِقُونَ إنْ لَمْ يُظْهِرُوهُ. وَهَؤُلَاءِ الْأَجْنَاسُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ كَثُرُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلِقِلَّةِ دُعَاةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَفُتُورِ آثَارِ الرِّسَالَةِ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ الرِّسَالَةِ وَمِيرَاثِ النُّبُوَّةِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ الْهُدَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ذَلِكَ. وَفِي أَوْقَاتِ الْفَتَرَاتِ وَأَمْكِنَةِ الْفَتَرَاتِ: يُثَابُ الرَّجُلُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ الْقَلِيلِ وَيَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِ لِمَنْ لَمْ تَقُمْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا لَا يَغْفِرُ بِهِ لِمَنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ...", وذكر حديث حذيفة عن الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذان لا يعرفان من أركان الإسلام غير كلمة التوحيد, إلى أن قال: "وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ يُقَالُ هِيَ كُفْرٌ قَوْلًا يُطْلَقُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ؛ فَإِنَّ " الْإِيمَانَ " مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَلَقَّاةِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْكُمُ فِيهِ النَّاسُ بِظُنُونِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِي كُلِّ شَخْصٍ قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ حَتَّى يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَتَنْتَفِي مَوَانِعُهُ مِثْلُ مَنْ قَالَ:...", وأخذ يمثل على ذلك بكفريات غير الشرك كاستحلال الخمر والربا من قريب العهد بإسلام أو مقيم ببادية بعيدة, وبحديث الرجل الذي شك في قدرة ‫ٱللَّٰه‬ على بعثه, وبعفو ‫ٱللَّٰه‬ الخطأ عن هذه الأمة, وغير ذلك, وختم كلامه بقوله: "وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي الْقَوَاعِدِ الَّتِي فِي هَذَا الْجَوَابِ فِي أَمَاكِنِهَا وَالْفَتْوَى لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (مجموع الفتاوى ٣٥ /١٦٤-١٦٦). [ثم يأتيك من المعاصرين من يقول لك بأن ابن تيمية لم يحتج بحديث الرجل الذي شك في قدرة ٱللَّٰه على بعثه في محل النزاع, رغم تكرر هذا منه؟!!] وكذا قوله السابق في جامع الرسائل ٢٩٣/٢ حيث ذكر فيه المحبة الشركية, وهي من الشرك الباطن, فمع إقراره بوجود شرك في الباطن لم يمنعه ذلك من جميع تقريراته السابقة, وذلك أن التلازم بين الظاهر والباطن عنده أمر قدري, وعليه فما من كفر أو شرك يقع في الظاهر, إلا ودافعه كفر أو شرك موجود في الباطن, ويلزم المخالف على هذا أحد أمرين أحلافهما مر, إما أن يطرد هذا فيما يسمى بالمسألة الخفية, ويغلق باب الإعذار بالجهل جملة وتفصيلا, وهذا قول الخوارج, أو أن ينفي هذا التلازم في المسألة الخفية, فيقع في شعبة من قول الجهمية والأشاعرة.

وأصل هذا القول المحدث مأخوذ عن عبد المجيد الشاذلي فهو أول من قال به, واطرادا مع أصوله طرد ذلك في جميع المكفرات المثبتة في القرآن والسنة, وأكد على ذلك في الحكم بالقوانين الوضعية التشريعية وفي تولي الكافرين, ولذا لما جاء على جحد الصفات والشرائع المتواترة أخرجها من ذلك - حتى لا يغلق باب العذر بالجهل - بحجة كونها من التكفير باللازم, وكانه لا دليل عليها على التكفير بجحدها من كتاب أو سنة؟!! وعامة من يقول ببعض أقواله من المعاصرين لا يعرف من أين جاءت ولا يطرد فيما يقول ويقع في التناقض.

‫فالعذر‬‫ بالجهل‬ ‫بشروطه‬ ‫وضوابطه‬ ‫كما‬ ‫هو‬ ‫جار‬ ‫ـ‬ ‫عند‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫ـ‬ ‫على‬ ‫من‬ ‫وقع‬ ‫في‬ ‫المكفرات‬ ‫والشركيات‬‫ في‬ ‫الظاهر‬ ‫فهو‬ ‫أيضا‬ ‫جار‬ ‫على‬ ‫من‬ ‫وقع‬ ‫في‬ ‫الكفريات‬ ‫والشركيات‬ ‫في‬ ‫الباطن‬‫‪.‬‬

‫وأما‬‫ عن‬ ‫تقريره‬ ‫بكون‬ ‫من‬ ‫كان‬ ‫كافرا‬ ‫في‬ ‫الظاهر‬ ‫فهو‬ ‫لا ‫بد‬ ‫لزوما‬ ‫أن‬ ‫يكون‬ ‫كافرا‬ ‫في‬ ‫الباطن‪،‬‬ ‫ردا‬‫ على‬ ‫الجهمية‬ ‫والأشاعرة‬ ‫لتصورهم‬ ‫البدعي‬ ‫من‬ ‫إمكانية‬ ‫وجود‬ ‫من‬ ‫هو‬ ‫مؤمن‬ ‫في‬ ‫الباطن‬ ‫وكافر‬‫ في‬ ‫الظاهر‬ ‫وأنه‬ ‫يكون‬ ‫من‬ ‫الناجين‬ ‫يوم‬ ‫القيامة‪،‬‬ ‫أو‬ ‫قول‬ ‫بعضهم‬ ‫بأن‬ ‫الساب‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫عز‬ ‫وجل‬ ‫من ‬‫غير‬ ‫استحلال‬ ‫لا‬ ‫يكفر‪،‬‬ ‫فمراده‬ ‫كما‬ ‫هو‬ ‫واضح‬ ‫من‬ ‫مجموع‬ ‫كلامه‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫الكفر‬ ‫الظاهر‬ ‫مستلزم ‬‫لانتفاء‬ ‫ما‬ ‫لا ‫يصح‬ ‫إسلام‬ ‫المرء‬ ‫إلا ‫به‬ ‫كالتعظيم‬ ‫والمحبة‬ ‫والانقياد‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫لا‬ ‫يعذر‬ ‫فيه‬ ‫بالجهل‪،‬‬‫ أو‬ ‫أنه‬ ‫مستلزم‬ ‫لأنواع‬ ‫الكفر‬ ‫الثلاثة‫‪:‬‬‫ التكذيب‬ ‫والعناد‬ ‫والإعراض‪،‬‬ ‫وهذه‬ ‫لا ‫تقع‬ ‫إلا‬ ‫ممن‬‫ بلغته‬ ‫الحجة‪،‬‬ ‫فيعرض‬ ‫عنها‬ ‫أو‬ ‫يكذبها‬ ‫أو‬ ‫لا‬ ‫ينقاد‬ ‫لها‬ ‫عنادا‪،‬‬ ‫ولما‬ ‫كان‬ ‫الجهمية‬ ‫والأشاعرة ‬‫يرون‬ ‫أن‬ ‫الإيمان‬ ‫هو‬ ‫المعرفة‬ ‫والتصديق‪،‬‬ ‫صار‬ ‫الكفر‬ ‫عندهم‬ ‫لا‬ ‫يكون‬ ‫إلا‬ ‫بالتكذيب‪،‬‬‫ ولذا‬ ‫لم‬ ‫يقروا‬ ‫بالتلازم‬ ‫بين‬ ‫الظاهر‬ ‫والباطن‫‪.‬‬‫ وجميع‬ ‫هذا‬ ‫خارج‬ ‫محل‬ ‫النزاع‫‪.‬‬

‫وبهذا‬‫ تبين‬ ‫أن‬ ‫لا‬ ‫تعارض‬ ‫بين‬ ‫مسألة‬ ‫إثبات‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫بش‬روطه ‬‫وضوابطه‪،‬‬ ‫وبين ‬‫أصلي‬‫‪:‬‬‫ "‫التلازم ‬‫بين‬ ‫الظاهر‬ ‫والباطن‫" ‬‫وأن‬ ‫"التوحيد‬‫ والشرك‬ ‫لا ‫يجتمعان‫"‬‫‪،‬‬‫ لا‬ ‫في‬ ‫حقيقة ‬‫الأمر‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫عند‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫لا‬ ‫وجود‬ ‫لذلك‬ ‫إلا ‫في‬ ‫ذهن‬ ‫المخالف‬ ‫الذي‬ ‫حرف‬ ‫مذهب‬ ‫ابن‬‫ تيمية‬ ‫ولم‬ ‫يفهم‬ ‫أصوله‬ ‫ولا‬ ‫فسر‬ ‫كلامه‬ ‫على‬ ‫ضوئها‬ ‫وخرج‬ ‫الفرع‬ ‫على‬ ‫غير‬ ‫أصله‪،‬‬ ‫فأخرج‬‫ل‬ ‫ه‬‫مذهبا‬ ‫متنافرا‬ ‫تضرب‬ ‫أقواله‬ ‫فيه‬ ‫بعضها‬ ‫ببعض‪،‬‬ ‫و‫ٱللَّٰه‬‬ ‫المستعان‬‫‪.‬‬

‫وبجميع‬‫ ما‬ ‫سبق‬ ‫من‬ ‫كلام‬ ‫حول‬ ‫الأصول‬ ‫الستة‬ ‫أكون‬ ‫قد‬ ‫بينت‬ ‫بفضل‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫ومعونته‬ ‫أن‬ ‫المذهب‬ ‫الصواب‬‫ في‬ ‫المسألة‬ ‫هو‬ ‫المذهب‬ ‫الرابع‪،‬‬ ‫وأنه‬ ‫هو‬ ‫مذهب‬ ‫شيخ‬ ‫الإسلام‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫الخلاف‬‫ في‬ ‫المسألة‬ ‫غير‬ ‫معتبر‪،‬‬ ‫لكون‬ ‫المذا‬‫هب‬‫ الأخرى‬ ‫لا ‫تستقيم‬ ‫إلا‬ ‫على‬ ‫أصول‬ ‫فاسدة‬‫‪.‬‬

٤ - أدلة الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة في الإعذار بالجهل في الشرك

‫دأب ‬‫المخالف‬ ‫على‬ ‫ادعاء‬ ‫أن‬ ‫أدلة‬ ‫عدم‬ ‫الإعذار‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫من‬ ‫الكتاب‬ ‫والسنة‬ ‫واضحة‬ ‫بينة‪،‬‬‫ فضلا ‫عن‬ ‫ادعائه‬ ‫الإجماع‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫المخالف‬ ‫له‬ ‫لا‬ ‫دليل‬ ‫معه‬ ‫من‬ ‫كتاب‬ ‫ولا ‫سنة‬ ‫ولا‬ ‫قول‬ ‫أحد‬‫ من‬ ‫سلف‬ ‫الأمة‬‫‪.‬‬

‫وهو‬‫ في‬ ‫غفلة‬ ‫تامة‬ ‫عن‬ ‫أن‬ ‫الأدلة‬ ‫التي‬ ‫ذكرها‬ ‫ما‬ ‫هي‬ ‫إلا ‫شبهات‪،‬‬ ‫لأنه‬ ‫لا ‫يستقيم‬ ‫له‬ ‫الاحتجاج‬ ‫بها‬‫ إلا ‫على‬ ‫أصول‬ ‫بدعية‪،‬‬ ‫وهي‬ ‫التي‬ ‫سبق‬ ‫بيانها‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫أن‬ ‫مدلول‬ ‫الكتاب‬ ‫والسنة‬ ‫لن‬ ‫ينعكس‬ ‫نورها ‬‫انعكاسا‬ ‫صحيحا‬ ‫على‬ ‫مرآة‬ ‫كلامية‪،‬‬ ‫وأما‬ ‫دعوى‬ ‫الإجماع‬ ‫فمردود‬ ‫إذ‬ ‫الخلاف‬ ‫ثابت‬‫‪.‬‬

‫وأما‬‫ عن‬ ‫أدلة‬ ‫الكتاب‬ ‫والسنة‬ ‫الدالة‬ ‫على‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الشرك‬ ‫في‬ ‫محل‬ ‫النزاع‪،‬‬ ‫المنعكس‬ ‫نور ‬‫مدلولها‬ ‫على‬ ‫مرآة‬ ‫سنية‪،‬‬ ‫فكان‬ ‫الانعكاس‬ ‫سليما‪،‬‬ ‫وتدركه‬ ‫الأفهام‬ ‫التي‬ ‫لم‬ ‫تتكدر‬ ‫بغشاوة‬ ‫هوى‬‫ العصبية‬ ‫أو‬ ‫الشبهات‬ ‫الكلامية‪،‬‬ ‫فهي‬ ‫على‬ ‫نوعين‫‪:‬‬‫ منه‬ ‫ما‬ ‫هو‬ ‫متعلق‬ ‫بخ‬اصة ‬‫الشرك‪،‬‬ ‫وهو‬‫ الذي‬ ‫ينشده‬ ‫المخالف‬ ‫دون‬ ‫غيره‪،‬‬ ‫ومنه‬ ‫ما‬ ‫هو‬ ‫متعلق‬ ‫بعموم‬ ‫المكفرات‪،‬‬ ‫ولو‬ ‫لم‬ ‫يكن‬ ‫ثمة‬ ‫أدلة ‬‫سوى‬ ‫هذا‬ ‫النوع‬ ‫لكفى‬ ‫به‬ ‫دليلا‬ ‫ووجه‬ ‫ذلك‬ ‫عدم‬ ‫وجود‬ ‫الفارق‬ ‫المعتبر‬ ‫بين‬ ‫اشتراط‬ ‫قيام‬ ‫الحجة‬‫ التفصيلية‬ ‫في‬ ‫آحاد‬ ‫الشرك‬ ‫وآحاد‬ ‫سائر‬ ‫المكفرات‪،‬‬ ‫إذ‬ ‫كلاهما‬ ‫من‬ ‫نواقض‬ ‫الإسلام‬ ‫وأس‬‫باب‬ ‫الردة‪،‬‬ ‫لكون‬ ‫الكفر‬ ‫والشرك‬ ‫مترادفان‬ ‫على‬ ‫قول‪،‬‬ ‫أو‬ ‫لكون‬ ‫الكفر‬ ‫أعم‬ ‫من‬ ‫الشرك‬ ‫على‬ ‫القول‬ ‫الثاني‪،‬‬ ‫فتجري‬ ‫موانع‬ ‫التكفير‬ ‫المعتبرة‬ ‫في‬ ‫مختلف‬ ‫أنواع‬ ‫المكفرات‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫الشرك‪،‬‬ ‫لكون ‬‫الشرك‬ ‫نوع‬ ‫من‬ ‫أنواع‬ ‫الكفر‪،‬‬ ‫فتشمله‬ ‫نفس‬ ‫الموانع‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫أمر‬ ‫لا ‫إشكال‬ ‫فيه‬ ‫بناء‬ ‫على‬ ‫دلالة ‬‫العمو‬م‬ ‫المطلق‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬ ‫وإنما‬ ‫يشكل‬ ‫على‬ ‫القول‬ ‫بدلالة‬ ‫العام‬ ‫المستلزم‬ ‫للعموم‬ ‫في‬ ‫الأحوال‪،‬‬‫ التي‬ ‫قال‬ ‫فيها‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫بأنه‬ ‫لا‬ ‫وجود‬ ‫لها‪،‬‬ ‫أي‬ ‫في‬ ‫لسان‬ ‫العرب‪،‬‬ ‫وأشار‬ ‫إلى‬ ‫أنه‬ ‫خلاف‬‫ قول‬ ‫السلف‪،‬‬ ‫أي‬ ‫أن‬ ‫أصحابها‬ ‫من‬ ‫العجمة‬ ‫أوتوا‬‫‪.‬‬

‫وهذا‬‫ النوع‬ ‫الثاني‬ ‫من‬ ‫الأدلة‬ ‫كثير‪،‬‬ ‫ولكثرته‬ ‫لن‬ ‫أذكر‬ ‫من‬‫ه‬‫ إلا ‫ما‬ ‫في‬ ‫ذكره‬ ‫فائدة‬ ‫يغفل‬ ‫عنها‬ ‫المخالف‪،‬‬‫ ومن‬ ‫أراد‬ ‫الوقوف‬ ‫على‬ ‫جميعها‬ ‫أو‬ ‫أكثرها‬ ‫فسيجدها‬ ‫في‬ ‫الفصل‬ ‫لابن‬ ‫حزم‬ ‫وفي‬ ‫الكيلانية‬‫ والماردينية‬ ‫والقلندرية‬ ‫جميعها‬ ‫لابن‬ ‫تيمية‬.‬‬

‫والذي‬‫ سأذكره‬ ‫آيتين‬ ‫وثلاثة‬ ‫أحاديث‬ ‫وأقوال‬ ‫السلف‬ ‫في‬ ‫بدعتين‬ ‫وصفتا‬ ‫بكونهما‬ ‫شركا‬:‬‬

الدليل الأول:

قول ‫ٱللَّٰه‬‬ تعالى:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا}

‫ووجه‬‫ الاستدلال‬ ‫بالآية‬ ‫أن‬ ‫ظاهر‬ ‫ما‬ ‫قاله‬ ‫بنو‬ ‫إسرائيل‬ ‫لموسى‬ ‫عليه‬ ‫السلام‬ ‫يفيد‬ ‫أنهم‬ ‫استحسنوا‬ ‫ما ‬‫سألوه‬ ‫إياه‪،‬‬ ‫وظنوا‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫لا‬ ‫يضر‬ ‫الديانة‬ ‫إن‬ ‫وقع‬ ‫بإذن‬ ‫الشرع‪،‬‬ ‫ويشهد‬ ‫لهذا‬ ‫من‬ ‫أقوال‬ ‫المفسرين‬‫‪:‬‬

‫قول‬‫ البغوي‫ والسمعاني‬ ‫في‬ ‫تفسيريهما‫‪:‬‬‫ "‬وظنوا‬‫ أن‬ ‫ذلك‬ ‫لا‬ ‫يضر‬ ‫الديانة‬‫"‪.‬‬

‫وقول‬ ‫ابن‬ ‫عطية‬ ‫في‬ ‫تفسيره‫‪:‬‬‫ "‫والظاهر‬‫ من‬ ‫مقالة‬ ‫بني‬ ‫إسرائيل‬ ‫لموسى... أنهم‬ ‫استحسنوا‬ ‫ما‬ ‫رأوه‬‫ من‬ ‫آلهة‬ ‫أولئك‬ ‫القوم‬ ‫فأرادوا‬ ‫أن‬ ‫يكون‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫شرع‬ ‫موسى‬ ‫وفي‬ ‫جملة‬ ‫ما‬ ‫يتقرب‬ ‫به‬ ‫إلى‬ ‫ٱللَّٰه‬‬"‪.‬‬

‫وقول‬‫ ابن‬ ‫الجوزي‬ ‫في‬ ‫تفسيره‫‪:‬‬‫ "‬‫وهذا‬‫ إخبار‬ ‫عن‬ ‫عظيم‬ ‫جهلهم‬ ‫حيث‬ ‫توهموا‬ ‫جواز‬ ‫عبادة‬ ‫غير‬ ‫ٱللَّٰه,‬ ‫بعد‬ ‫ما‬ ‫رأوا‬ ‫الآيات‬‫"‬‫‪.‬‬

وقول ابن عاشور في تفسيره: "والتشبيه في قوله {كما لهم آلهة} أرادوا حض موسى على ‫إجابة‬ ‫سؤالهم‪،‬‬ ‫وابتهاجا‬ ‫بما‬ ‫رأوا‬ ‫من‬ ‫حال‬ ‫القوم‬ ‫الذين‬ ‫ح‬‫لّوا‬‫ بين‬ ‫ظهرانيهم‪،‬‬ ‫وكفَى‬ ‫بالأمة‬ خسة عقول أن تعد القبيح حسنا".

‫وهذا‬‫ من‬ ‫بني‬ ‫إسرائيل‬ ‫ناقض‬ ‫للبراءة‬ ‫من‬ ‫الشرك‬ ‫الذي‬ ‫هو‬ ‫أحد‬ ‫ركني‬ ‫كلمة‬ ‫التوحيد‬ ‫المتعلق‬ ‫بالنفي‬‫ الذي‬ ‫د‬‫ل‬‫ عليه‬ ‫قوله‬ ‫تعالى‬ {إِنَّنِى بَرَآءٌۭ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} الآية, وقوله {فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ} الآية, ‫فهم‬ ‫وإن‬ ‫كانو‬ ‫ا‬‫قد‬ ‫حققوا‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫الجملة‬ ‫ويدل‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫إسلامهم‬ ‫وبراءتهم‬ ‫من‬‫فرعون‬ ‫ودينه‪،‬‬ ‫إلا ‫أنهم‬ ‫لم‬ ‫يحققوه‬ ‫في‬ ‫هذه‬ ‫الصورة‬ ‫المعينة‬ ‫لفرط‬ ‫جهلهم‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫وإن‬ ‫كان‬ ‫من ‬‫نواقض‬ ‫توحيد‬ ‫العبادة‬ ‫إلا‬ ‫أنه‬ ‫اعتبر‬ ‫مانع‬ ‫الجهل‬ ‫في‬ ‫حقهم‬ ‫فلم‬ ‫يحكم‬ ‫بردتهم‪،‬‬ ‫ودل‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫نهم‬‫لم‬ ‫يحكم‬ ‫عليهم‬ ‫بما‬ ‫حكم‬ ‫على‬ ‫عاب‬‫دي‬‫ العجل‬ {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَـٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوٓا۟ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌۭ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ}, ‫قال‬ ‫المعلمي‬ ‫اليماني‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫العبادة‫‪:‬‬‫ "يظهر‬‫ من‬ ‫جواب‬ ‫موسى‬ عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم وجهلهم لم يجعل طلبهم ارتدادا عن الدين. ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا ‫بنحو‬ ‫ما‬ ‫أوخذوا‬ ‫به‬ ‫عند‬ ‫اتخاذهم‬ ‫العجل‪،‬‬ ‫فكأنهم‬ ‫هنا‬ ‫‪-‬‬ ‫وٱللَّٰه ‫أعلم‬ ‫‪-‬‬ عذروا بقرب عهدهم." ‫اهـ‬‫‪.‬‬

‫كما‬‫ أن‬ ‫الدليل‬ ‫الأول‬ ‫دل‬ ‫على‬ ‫أنه‬ ‫يشترط‬ ‫بلوغ‬ ‫الحجة‬ ‫التفصيلية‬ ‫لتكفير‬ ‫المعين‬ ‫فيما‬ ‫يتوقف‬ ‫العلم ‬‫بمخالفة‬ ‫الحجة‬ ‫إلى‬ ‫العلم‬ ‫بتفاصيلها‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يكفي‬ ‫في‬ ‫هذه‬ ‫الحالة‬ ‫لتكفير‬ ‫الأعيان‬ ‫علمهم‬ ‫بالحجة ‬‫المجملة‬ ‫بالأمر‬ ‫بعبادة‬ ‫ٱللَّٰه ‫وحده‬ ‫لا ‫شريك‬ ‫له‪،‬‬ ‫وذلك‬ ‫أن‬ ‫الحجة‬ ‫المجملة‬ ‫قائمة‬ ‫علي‬ ‫هم‬ ‫بإرسال ‬‫نبي‬ ٱللَّٰه ‫موسى‬ ‫عليه‬ ‫السلام‬ ‫إليهم‪،‬‬ ‫وهم‬ ‫قد‬ ‫آمنوا‬ ‫بذلك‪،‬‬ ‫قال‬ ‫سبحانه‬ ‫وتعالى‬

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ رَّسُولًا أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ}
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِىٓ إِلَيْهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدُونِ}
{يُنَزِّلُ ٱلْمَلَـٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦٓ أَنْ أَنذِرُوٓا۟ أَنَّهُۥ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ}
{فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٌۭ مِّن قَوْمِهِۦ عَلَىٰ خَوْفٍۢ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ}
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًۭا وَٱجْعَلُوا۟ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةًۭ وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ}

‫ومع‬ ‫ذلك‬ ‫اعتبر‬ ‫مانع‬ ‫الجهل‬ ‫في‬ ‫حقهم‬ ‫ولم‬ ‫يحكم‬ ‫عليهم‬ ‫بحكم‬‫عاب‬ ‫دي‬ ‫العجل‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يصح‬ ‫الاعتراض‬ ‫على‬ ‫هذا‬ ‫بأن‬ ‫ذلك‬ ‫لكونهم‬ ‫لم‬ ‫يشرعوا‬ ‫في‬ ‫عبادة‬ ‫غير ٱللَّٰه,‬ ‫فوجه‬ ‫الاستدلال‬ ‫لا‬ ‫يتعلق‬ ‫بذلك‬ ‫وإنما‬ ‫هو‬ ‫متعلق‬ ‫بعدم‬ ‫تحققهم‬ ‫بالبراءة‬ ‫من‬ ‫ذلك‬ ‫الشرك‪،‬‬‫ ف‬‫بطل ‬‫بهذا‬ ‫دعوى‬ ‫عدم‬ ‫وقوعهم‬ ‫فيما‬ ‫ي‬ن‬‫قض ‬‫التوحيد‪،‬‬ ‫فتنبه‬‫‪.‬‬

‫وما ‬‫أشبه‬ ‫حال‬ ‫القبورية‬ ‫الذين‬ ‫هم‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫بهؤ‬‫لاء‬‫‪.‬‬

‫فإن ‬‫قال‬ ‫قائل‬ ‫بأنه‬ ‫يلزمني‬ ‫على‬ ‫هذا‬ ‫أن‬ ‫أعذر‬ ‫المشركين‬ ‫الأصليين‬ ‫وألا‬ ‫أكفرهم‪،‬‬ ‫فجوابه‬ ‫أن‬ ‫هذا‬ ‫لا ‬‫يلزمني‬ ‫لوجود‬ ‫ثلاثة‬ ‫فروق‬ ‫بين‬ ‫النوعين‬‫‪:‬‬

‫الفارق‬‫ الأول‫‪:‬‬‫ كونهم‬ ‫علّقوا‬ ‫ذلك‬ ‫بإذن‬ ‫الشرع‪،‬‬ ‫فأساؤوا‬ ‫في‬ ‫الطلب‪،‬‬ ‫ظنا‬ ‫منهم‬ ‫أن‬ ‫ما‬ ‫استحسنوه‬ ‫خاصة‬‫ يمكن‬ ‫أن‬ ‫يأذن‬ ‫ٱللَّٰه ‫به‬ ‫ورسوله‬ ‫موسى‬ ‫عليه‬ ‫السلام‪،‬‬ ‫فلم‬ ‫يعتقدوا‬ ‫الإلهية‬ ‫في‬ ‫غير‬ ٱللَّٰه ‫ابتداء‪،‬‬‫ بخلاف‬ ‫المشرك‬ ‫الأصلي‬ ‫فهو‬ ‫معتقد‬ ‫ذلك‬ {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}, ‫ولا‬ ‫ينفعه‬ ‫بعدها‬ ‫نسبة‬ ‫ذلك‬ ‫لدين‬ ‫نبي‪،‬‬ ‫كما‬ ‫لم‬ ‫ينفع‬ ‫مشركي‬ ‫العرب‬ ‫انتسابهم‬‫ لدين‬ ‫إبراهيم‬ ‫عليه‬ ‫السلام‬‫‪.‬‬

‫الفارق‬‫ الثاني‫‪:‬‬‫ لم‬ ‫يكن‬ ‫منهم‬ ‫شروع‬ ‫في‬ ‫عبادة‬ ‫غير‬ ٱللَّٰه,‬ ‫ولو‬ ‫كان‬ ‫ذلك‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫لكان‬ ‫عن‬ ‫علم‬ ‫بكونهم‬‫ لغير‬ ‫ٱللَّٰه ‫عابدين‬ ‫ولكونهم‬ ‫متخذين‬ ‫إلها‬ ‫مع‬ ‫ٱللَّٰه,‬ ‫ولصار‬ ‫حكمهم‬ ‫حكم‬ ‫عابدي‬ ‫العجل‬ ‫الذي ن‬‫قال‬ ‫زعيمهم‬ ‫السامري‬ {هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ}.

‫الفارق ‬‫الثالث‫‪:‬‬‫ أنه‬ ‫قد‬ ‫ثبت‬ ‫لهم‬ ‫عقد‬ ‫الإسلام‬ ‫فلا ‫يُ‬‫زال‬‫ عنهم‬ ‫إلا ‫بيقين‪،‬‬ ‫بخلاف‬ ‫المشرك‬ ‫الأصلي‬‫‪.‬‬

‫فإن ‬‫قال‬ ‫آخر‬ ‫يلزمك‬ ‫على‬ ‫هذا‬ ‫أن‬ ‫تعذر‬ ‫بالجهل‬ ‫من‬ ‫يعبد‬ ‫غير‬ ٱللَّٰه ‫معتقدا‬ ‫الإذن‬ ‫الإلهي‬ ‫بذلك‬ ‫ممن‬‫ ينتسب‬ ‫للإسلام‬‫‪:‬‬

‫فالجواب‬‫ أن‬ ‫هؤلاء‬ ‫حالهم‬ ‫في ذلك‬ ‫حال‬ ‫كفار‬ ‫قريش‬ ‫الذين‬ ‫يحسبون‬ ‫أن‬ ‫ما‬ ‫هم‬ ‫فيه‬ ‫من‬ ‫ملة‬ ‫إبراهيم ‬‫وأنه‬ ‫يقربهم‬ ‫إلى‬ ‫ٱللَّٰه {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}, ‫وحالهم‬ ‫حال‬ ‫من‬ ‫تبع‬ ‫السامري ‬‫يحسبون‬ ‫أن‬ ‫موسى‬ ‫عليه‬ ‫السلام‬ ‫نسي‬ {هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ}, ‫وضلالهم‬ ‫متعلق‬‫ بما‬ ‫اعتقدوه‬ ‫مطابقا‬ ‫للواقع‬ ‫وبالعمل‬ ‫الذي‬ ‫تلبسوا‬ ‫به‬ ‫عياذا‬ ‫باللَّٰه,‬ ‫وهؤلاء‬ ‫قد‬ ‫حكم‬ ٱللَّٰه‬ ‫بكفرهم‪،‬‬‫ بينما‬ ‫الجهال‬ ‫من‬ ‫قوم‬ ‫موسى‬ ‫لم‬ ‫يعتقدوا‬ ‫في‬ ‫شيء‬ ‫أنه‬ ‫إله‬ ‫ي‬‫عبد‬‫ ابتداء‪،‬‬ ‫وظنوا‬ ‫أنه‬ ‫بالإذن‬‫ الإلهي‬ ‫يمكن‬ ‫وقوعه‬ ‫ويكون‬ ‫مشروعا‪،‬‬ ‫ولذا‬ ‫طلبوا‬ ‫الإذن‬ ‫لذلك‬ ‫لعظيم‬ ‫جهلهم‪،‬‬ ‫فضلالهم‬ ‫متعلق ‬‫بالأساس‬ ‫بالإمكان‬ ‫العقلي‪،‬‬ ‫وإمكانية‬ ‫تحققه‬ ‫بالإذن‬ ‫الشرعي‪،‬‬ ‫ولم‬ ‫يفعلوا‬ ‫شيئا‬ ‫من‬ ‫ذلك‬ ‫ولا اعتقدوه‫‪،‬‬‫ وهؤلاء‬ ‫لم‬ ‫يحكم‬ ٱللَّٰه ‫فيهم‬ ‫بحكمه‬ ‫فيمن‬ ‫تبع‬ ‫السامري‪،‬‬ ‫فدل‬ ‫هذا‬ ‫على‬ ‫وجود‬ ‫فارق‬ ‫معتبر‪،‬‬‫ وأنهما‬ ‫غير‬ ‫متماثلين‬‫‪.‬‬

الدليل الثاني:

قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}

‫وقبل ‬‫أن‬ ‫أبين‬ ‫وجه‬ ‫الاستدلال‬ ‫بالآية‬ ‫أسوق‬ ‫بعض‬ ‫ما‬ ‫جاء‬ ‫عن‬ ‫السلف‬ ‫في‬ ‫تفسيرها‬‫‪:‬‬

‫أخرج ‬‫ابن‬ ‫المنذر‬ ‫أن‬ ‫عبد‬ ٱللَّٰه ‫بن‬ ‫مسع‬‫ود‬‫ رضي‬ ‫ٱللَّٰه ‫عنه‬ ‫كان‬ ‫يخطب‬ ‫أصحابه‬ ‫كل‬ ‫عشية‬ ‫خميس ‬‫ثم‬ ‫يقول‫‪:‬‬ ... أيها الناس: إنى وٱللَّٰه لا أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم, وقد قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}. أورده صاحب المنار.

‫وقا‬‫ل ‬‫الضحاك‬:‬ ‫ما‬ ‫كان‬ ٱللَّٰه ‫ليعذب‬ ‫قوما‬ ‫حتى‬ ‫يبين‬ ‫لهم‬ ‫ما‬ ‫يأتون‬ ‫وما‬ ‫يذرون‬‫‪.‬‬‫ أورده‬ ‫البغوي‬ ‫في‬‫ تفسيره‬‫‪.‬‬

وقال البغوي في تفسيره: "يريد حتى يتقدم إليكم بالنهي, تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال".

‫وقال‬ ‫ابن‬ ‫كثير‬ ‫في‬ ‫تفسيره‫‪:‬‬‫ "إنه‬ ‫لا ‫يضل‬ ‫قوما‬ ‫بعد‬ ‫بلاغ‬ ‫الرسالة‬ ‫إليهم‬‫‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫يكونوا‬ ‫قد‬ ‫قامت‬ ‫عليهم ‬‫الحجة‬‫"‪.‬‬

‫وقال‬ ‫أبو‬ ‫القاسم‬ ‫الأصبهاني‬ ‫في‬ ‫الحجة‬ ‫في‬ ‫بيان‬ ‫المحجة‬‫‪:‬‬ "وَقد أعلم ٱللَّٰه سُبْحَانَهُ أَنه لَا يُؤَاخذ إِلَّا بعد الْبَيَان، وَلَا يُعَاقب إِلَّا بعد الْإِنْذَار فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هدَاهُم} فَكل من هداه ٱللَّٰه عَزَّ وَجَلَّ وَدخل فِي عقد الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا يخرج إِلَى الْكفْر إِلَّا بعد الْبَيَان. (٥٥٢/٢)

‫وهذه‬‫ الآية‬ ‫هي‬ ‫من‬ ‫جملة‬ ‫الآيات‬ ‫التي‬ ‫احتج‬ ‫بها‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫على‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫في‬ ‫الشرك‪،‬‬ ‫ووجه‬‫ دلالتها‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫وجهين‬‫‪:‬‬

‫الوجه ‬‫الأول‬‫‪:‬‬‫ أن‬ ‫أفراد‬ ‫الشرك‬ ‫داخلة‬ ‫في‬ ‫عموم‬ ‫قوله‬ ‫تعالى‬ {حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ}, إذ {ما} اسم موصول وهو من صيغ العموم, فدخل في ذلك أفراد الشرك, قال ابن عباس في قوله تعالى {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}: "قوله {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ} يقول: اتفى الشرك, {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يقول: الذين يتقون الشرك" رواه ابن جرير.

‫لوجه ‬‫الثاني‬‫‪:‬‬‫ أن‬ ‫أفراد‬ ‫الشرك‬ ‫داخلة‬ ‫في‬ ‫عموم‬ ‫قوله‬ ‫تعالى‬ {ليضل}, إذ الفعل سياق النفي مقيد للعموم باتفاق الأصوليين, لتضمنه مصدرا نكرة, حكى الاتفاق الزركشي والشنقيطي, قال تعالى {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}.

ومعنى الضلال في قوله تعالى {ليضل} هو المعنى الشرعي الذي يترتب عليه الوعيد, ويلحق الأعيان بشرط قيام الحجة {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} بدلالة مفهوم الغاية, وليس هو المعنى اللغوي الذي لا يستلزم وعيدا, والدال على قبح حالهم وذمهم عقلا, فهذا ثابت لهم قبل بلوغ البيان, واستعمال الضلال بالمعنى اللغوي قبل مجيء الوحي ورد في قوله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (مع الفارق), وفي قوله عز وجل في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته" وهذا التقرير حول معنيي الضلال مخرج على قول أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح العقلي.

‫فإن‬‫ قيل‬ ‫قد‬ ‫وقع‬ ‫البيان‬ ‫بالقرآن‬ ‫ل‬قوله‬‫ تعالى‬ {لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}, فالجواب: أن في أمكنة وأزمنة الجهل التي يفتر فيها نور العلم, يخفى ذلك على الناس, لعدم تمكنهم من العلم بذلك, فيحتاجون إلى بيان العلماء ورثة النبي ﷺ في البيان, لقوله تعالى {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}, وقد وصفهم علي رضي ٱللَّٰه عنه بكومهم قائمين لله بحجة, وقال رضي ٱللَّٰه عنه: "ما أخذ ٱللَّٰه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا" رواه البغوي, ولا تعارض بين الآيتين كما لا تعارض بين {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} وبين {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.

الدليل الثالث:

‫قول ‬‫الجارية‬ ‫في‬ ‫النبي‬ ﷺ‫‪:‬‬‫ "وفينا‬‫ نبي‬ ‫يعلم‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫غد‫" ‬‫رواه‬ ‫البخاري‬‫ من‬ ‫حديث‬ الربيع بنت معوذ, ‫وسياق‬ ‫الحديث‬ ‫يدل‬ ‫على‬ ‫أنها‬ ‫مميزة‬ ‫لذكرها‬ ‫لمن‬ ‫قتل‬ ‫من‬ ‫آباء‬ ‫الربيع‬ ‫يوم‬ ‫بدر‫‪.‬‬‫ وقولها‬ ‫فيه‬‫ نسبة‬ ‫علم‬ ‫الغيب‬ ‫للنبي‬ ﷺ‪‪،‬‬ ‫لقولها‬ ‫"‫ما‬‫في‬ ‫غد‫"‬‫‪،‬‬‫ و‬ ‫"‬‫ما‬‫"‬‫ اسم‬ ‫موصول‬ ‫يفيد‬ ‫العموم‪،‬‬ ‫ولقوله‬ ﷺ‪،‬‬‫ فيما‬ ‫رواه‬ ‫البخاري‫‪:‬‬‫ "‬مفاتيح‬‫ ال‬غيب‬‫ خمس‬ ‫لا‬ ‫يعلمها‬ ‫إلا ‫هللا‫"‬‫‪،‬‬‫ وذكر‬ ‫منها‫‪:‬‬‫ "ولا ‬‫يعلم‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫غد‬‫ إلا ٱللَّٰه‬"‬‫‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫قد‬ ‫عده‬ ‫الإمام‬ ‫إسماعيل‬ ‫الشهيد‬ ‫الدهلوي‬ ‫من‬ ‫الشرك‬ ‫الأكبر‪،‬‬ ‫كما‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫"‬‫رد ‬‫الإشراك"‬‫‪،‬‬‫ وفي‬ ‫شرحه‬ ‫"‫رسالة ‬‫التوحيد‫"‬‫‪،‬‬‫ ومع‬ ‫هذا‬ ‫لم‬ ‫يكفرها‬ ‫النبي‬ ﷺ‪،‬‬ ‫بل‬ ‫قال‬ ‫لها‬ ‫منكرا ‬‫إطراءها‬ ‫إياه‫‪:‬‬‫ "دعي ‬‫هذه‬ ‫وقولي‬ ‫بالذي‬ ‫كنت‬ ‫تقولين‫"‬‫‪،‬‬‫ وبقي‬ ‫النظر‬ ‫في‬ ‫سنها‬ ‫كمميزة‪،‬‬ ‫وإن‬‫ كان‬ ‫هذا‬ ‫السن‬ ‫يعتبر‬ ‫من‬ ‫صاحبه‬ ‫وقوع‬ ‫الردة‬ ‫كما‬ ‫يعتبر‬ ‫إسلامه‪،‬‬ ‫أم‬ ‫لا؟‬ ‫والخلاف‬ ‫في‬ ‫هذه‬ ‫المسألة ‬‫معروف‬‫‪.‬‬

الدليل الرابع:

‫قوله‬‫ ﷺ‬‫‪:‬‬‫ "‬إن‬‫ ٱللَّٰه‬ ‫تجاوز‬ ‫عن‬ ‫أمتي‬ ‫الخطأ"‬‫‪،‬‬‫ وهو‬ ‫متفق‬ ‫على‬ ‫معناه‬ ‫في‬ ‫الجملة‬ ‫بين‬ ‫الفقهاء‬ ‫كما‬ ‫ذكر‬‫ ابن‬ ‫العربي‬ ‫المالكي‪،‬‬ ‫ويشهد‬ ‫لمعناه‬ ‫أواخر‬ ‫آيات‬ ‫سورة‬ ‫البقرة‬‫‪.‬‬

‫وقد‬‫ كان‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫كثير‬ ‫الاحتجاج‬ ‫به‬ ‫في‬ ‫مختلف‬ ‫المكفرات‬ ‫سواء‬ ‫في‬ ‫الشركيات‬ ‫أو‬ ‫تعطيل‬ ‫الصفات‬‫ أو‬ ‫إنكار‬ ‫الشرائع‬ ‫المتواترة‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫قال‬: "وَإِذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ الْمُفَسَّرِ بِالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ فَهَذَا عَامٌّ عُمُومًا مَحْفُوظًا وَلَيْسَ فِي الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُخْطِئًا عَلَى خَطَئِهِ وَإِنْ عَذَّبَ الْمُخْطِئَ. مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ" (الفتاوى ٤٩٠/١٢) ووجه استدلاله به:

‫أن ‬‫الخطأ‬ ‫ضد‬ ‫العمد‪،‬‬ ‫ولا‬ ‫يكون‬ ‫المرء‬ ‫عامدا‬ ‫لفعله‬ ‫إلا ‫إذا‬ ‫كان‬ ‫عالما‬ ‫بحقيقته‬ ‫قاصدا‬ ‫له‬ ‫بإرادته‪،‬‬‫ وكما‬ ‫أن‬ ‫تخلف‬ ‫قصد‬ ‫الفعل‬ ‫لإرادة‬ ‫غيره‬ ‫كما‬ ‫وقع‬ ‫مع‬ ‫من‬ ‫قال‫‪:‬‬‫ "اللهم ‬‫أنت‬ ‫عبدي‬ ‫وأنا‬ ‫ربك‬‫‪.‬‬‫ أخطأ‬ ‫من‬ ‫ش‬‫دة ‬‫الفرح‫" ‬‫كما‬ ‫في‬ ‫صحيح‬ ‫مسلم‪،‬‬ ‫ينفي‬ ‫العمد‪،‬‬ ‫فكذلك‬ ‫من‬ ‫تخلف‬ ‫عنه‬ ‫العلم‬ ‫بحقيقة‬‫ الفعل‬ ‫لجهله‬ ‫أو‬ ‫تأويله‬‫‪،‬‬ ‫ينفي‬ ‫عنه‬ ‫العمد‬ ‫ويعتبر‬ ‫هو‬ ‫الآخر‬ ‫مخطئ‪،‬‬ ‫وليس‬ ‫بين‬ ‫صورتي‬ ‫الخطأ ‬‫فارق‬ ‫معتبر‬ ‫حتى‬ ‫يعذر‬ ‫في‬ ‫الصورة‬ ‫الأولى‬ ‫دون‬ ‫الثانية‬ ‫إذ‬ ‫كلاهما‬ ‫غير‬ ‫متعمد‬ ‫لفعله‬‫‪.‬‬

‫وقوله ﷺ‬‫‪:‬‬‫ "‬عن‬‫ أمتي"‬‫‪،‬‬‫ مفهومه‬ ‫أن‬ ‫غير‬ ‫أمته‬ ‫خارجون‬ ‫عن‬ ‫هذا‪،‬‬ ‫فخرج‬ ‫به‬ ‫الكفار‬ ‫الأصليون‪،‬‬ ‫وهو‬‫ ما‬ ‫صرح‬ ‫به‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫والشنقيطي‪،‬‬ ‫ويلحق‬ ‫بهم‬ ‫من‬ ‫كان‬ ‫مثلهم‬ ‫ممن‬ ‫لا‬ ‫يسلم‬ ‫بأن‬‫ العبادة‬ ‫حق‬ ‫خالص‬ للَّٰه‬ ‫كلإسماعيلية‬ ‫والنصيرية‬ ‫والدروز‪،‬‬ ‫وأن‬ ‫محمد ﷺ ‫رسول‬ ٱللَّٰه‬ ‫وخاتم‬ ‫أنبيائه‬‫ كأتباع‬ ‫مدعي‬ ‫النبوة‬ ‫كأتباع‬ ‫مسيلمة‬ ‫قديما‬ ‫والقاديانية‬ ‫حديثا‬‫‪.‬‬

‫وقوله‬‫ ﷺ‬‫‪:‬‬‫ "الخطأ‬‫"‬‫‪،‬‬ ‫يخرج‬ ‫به‬ ‫ما‬ ‫لا ‫يتصور‬ ‫أنه‬ ‫كذلك‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫ما‬ ‫يستلزم‬ ‫لزوما‬ ‫صريحا‬ ‫أن‬ ‫ينتفي‬‫ معه‫‪:‬‬‫ أصل‬ ‫التصديق‬ ‫أو‬ ‫المحبة‬ ‫أو‬ ‫التعظيم‬ ‫أو‬ ‫القبول‬ ‫أو‬ ‫الانقياد‪،‬‬ ‫كمن‬ ‫يقول‬ ‫بالتخييل‬ ‫من‬ ‫الفلاسفة ‬‫وتأويلات‬ ‫الباطنية‬ ‫والقائلين‬ ‫بوحدة‬ ‫الوجود‬ ‫والقائلين‬ ‫بالحلول‬ ‫والاتحاد‬ ‫والاستهزاء‬ ‫باللَّٰه‬ ‬‫ورسوله‬ ‫وسبهما‬ ‫وم‬ن‬‫ يحمل‬ ‫الأيديولوجية‬ ‫العالمناية‬ ‫م‬‫من‬‫ لا‬ ‫يقر‬ ‫بأن‬ ‫أحكام‬ ‫الشريعة‬ ‫في‬ ‫باب ‬‫السياسة‬ ‫ملزمة‬ ‫في‬ ‫جميع‬ ‫الأزمنة‬ ‫ومن‬ ‫يترك‬ ‫جميع‬ ‫الفرائض‬ ‫العملية‬ ‫بعد‬ ‫العلم‬ ‫بها‬ ‫لا‬ ‫يأت‬ ‫بواحدة ‬‫منها‬‫‪.‬‬

‫وكما‬‫ قال‬ ‫علي‬ ‫رضي‬ ٱللَّٰه‬ ‫عنه‫‪:‬‬‫ "ليس‬ ‫من‬ ‫أراد‬ ‫الحق‬ ‫فأخطأه‬ ‫كمن‬ ‫أراد‬ ‫الباطل‬ ‫فأدركه‫"‬‫‪،‬‬‫ وبهذا‬ ‫افترق‬‫ جهل‬ ‫الجاهل‬ ‫ـ‬ ‫بسبب‬ ‫عدم‬ ‫التمكن‬ ‫من‬ ‫العلم‬ ‫فخرج‬ ‫بذلك‬ ‫المعرض‬ ‫ـ‬ ‫عن‬ ‫زندقة‬ ‫الزنديق‬‫‪.‬‬

‫وبهذا ‬‫يتبين‬ ‫وجه‬ ‫كون‬ ‫عموم‬ ‫الحديث‬ ‫عند‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ "عموما محفوظا" ‫لا ‫مخصوصا‪،‬‬ ‫كما‬ ‫هو‬ ‫لازم‬‫ قول‬ ‫المتكلمين‬ ‫(‫ووقع ‬‫مدحت‬ ‫الفراج‬ ‫في‬ ‫كتابه‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‬ ‫تحت‬ ‫المجهر‬ ‫الشرعي‬ ‫في‬ ‫تحريف‬‫ قوله‬ ‫لما‬ ‫ادعى‬ ‫عليه‬ ‫أنه‬ ‫عموم‬ ‫مخصوص‬ ‫عنده‪،‬‬ ‫واحتج‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫بقول‬ ‫القاضي‬ ‫عياض ‬‫الأشعري‬!!)‬‫‪،‬‬‫ ويتبين‬ ‫وجه‬ ‫احتجاج‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫به‬ ‫على‬ ‫محل‬ ‫النزاع‬ ‫من‬ ‫القبورية‬ ‫في‬ ‫أكثر‬‫من‬ ‫موطن‪،‬‬ ‫واعتبارهم‬ ‫من‬ ‫جملة‬ ‫الأم‬ة‬‫ لعدم‬ ‫منازعتهم‬ ‫في‬ ‫وجوب‬ ‫إفراد‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫بالعبادة‬ ‫وحده‬‫في‬ ‫الجملة‪،‬‬ ‫ولاندراج‬ ‫ما‬ ‫وقعوا‬ ‫فيه‬ ‫من‬ ‫شرك‬ ‫تحت‬ ‫مسمى‬ ‫الخطأ‬ ‫لجهلهم‬ ‫بدخول‬ ‫فعلهم‬ ‫تحت ‬‫مسمى‬ ‫العبادة‬‫‪.‬‬

الدليل الخامس:

‫حديث ‬‫الرجل‬ ‫الذي‬ ‫شك‬ ‫في‬ ‫قدرة‬ ٱللَّٰه‬ ‫على‬ ‫بعثه‫‪:‬‬

‫وهو ‬‫في‬ ‫الصحيحين‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫ذكر‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫وابن‬ ‫الوزير‬ ‫أنه‬ ‫متواتر‪،‬‬ ‫وصرح‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫أنه‬ ‫كثير‬ ‫الذكر‬‫ له‬ ‫والاحتجاج‬ ‫به‬ ‫عند‬ ‫حديثه‬ ‫مع‬ ‫معاصريه‬ ‫عن‬ ‫مسألة‬ ‫العذر‬ ‫بالجهل‪،‬‬ ‫وكذا‬ ‫في‬ ‫كتاباته‬ ‫في‬‫مختلف‬ ‫المكفرات‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫الشرك‬‫‪.‬‬

‫هذا‬‫ وقد‬ ‫تعرض‬ ‫هذا‬ ‫الحديث‬ ‫لك‬‫م‬‫ هائل‬ ‫من‬ ‫التأويل‬ ‫من‬ ‫قبل‬ ‫شر‬‫اح‬‫ الحديث‪،‬‬ ‫وقد‬ ‫احتج‬ ‫بتأويلاتهم‬‫ تلك‬ ‫عدد‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬ ‫صرفا‬ ‫للحديث‬ ‫عن‬ ‫ظاهره‪،‬‬ ‫غفلة‬ ‫منهم‬ ‫عن‬ ‫الأصول‬ ‫الكلامية‬‫ لهذه‬ ‫التأويلات‪،‬‬ ‫التي‬ ‫سماها‬ ‫ابن‬ ‫حزم‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫تحريفا‪،‬‬ ‫وبينَا‬ ‫وجه‬ ‫ذلك‬ ‫باختصار‪،‬‬ ‫وهذا‬‫ بيان‬ ‫وجه‬ ‫اعتبارهما‬ ‫لها‬ ‫تحريفا‬‫‪:‬‬

‫و‬‫اعلم‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫تأول‬ ‫الحديث‬ ‫من‬ ‫شراح‬ ‫الحديث‬ ‫عامتهم‬ ‫بين‬ ‫ماتريدي‬ ‫وأشعري‪،‬‬ ‫والذي‬ ‫دفعهم‬ ‫إلى‬‫ هذا‪،‬‬ ‫هو‬ ‫معارضة‬ ‫هذا‬ ‫الحديث‬ ‫وهدمه‬ ‫لما‬ ‫يقررونه‬ ‫تحت‬ ‫مسمى‬ ‫أصل‬ ‫الدين‪،‬‬ ‫أي‬ ‫التقرير‬ ‫الكلامي ‬‫المأخوذ‬ ‫عن‬ ‫المعتزلة‬ ‫الذي‬ ‫سبق‬ ‫تقريره‬ ‫تحت‬ ‫الأصل‬ ‫الثاني‬ ‫المعنون‬ ‫له‬ ‫بـ‬"‬‫هل ‬‫يعذر‬ ‫بالجهل‬‫ في‬ ‫أصول‬ ‫لا ‫دين؟‬‫"‬‫‪،‬‬‫ وذلك‬ ‫أنه‬ ‫وفق‬ ‫تقريرهم‬ ‫ذاك‪،‬‬ ‫لا‬ ‫يصح‬ ‫إعذار‬ ‫هذا‬ ‫الشاك‬ ‫في‬ ‫قدرة‬ ٱللَّٰه‪،‬‬‫ وذلك‬ ‫أن‬ ‫صفة‬ ‫القدرة‬ ‫من‬ ‫الصفات‬ ‫التي‬ ‫يجب‬ ‫عندهم‬ ‫إثباتها‬ ‫عقال‬ ‫بالنظر‬ ‫الكلامي‬ ‫باتفاق‬ ‫المتكلمين‬‫ جهمية‬ ‫ومعتزلة‬ ‫وأشعرية‬ ‫وماتردية‪،‬‬ ‫ولا ‫يعذر‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫بالجهل‬ ‫والخطأ‪،‬‬ ‫ولما‬ ‫كان‬ ‫إثبات ‬‫البعث‬ ‫يبحث‬ ‫في‬ ‫كتب‬ ‫ع‬‫لم‬ ‫الكلام‬ ‫تحت‬ ‫قسم‬ ‫السمعيات‬ ‫لا‬ ‫العقليات‪،‬‬ ‫ويعتبرون‬ ‫دليله‬ ‫سمعي‬‫ محض‬ ‫لا‬ ‫مدخل‬ ‫للعقل‬ ‫فيه‬ ‫ـ‬ ‫خالفا‬ ‫لظاهر‬ ‫الآيات‬ ‫ولقول‬ ‫أهل‬ ‫السنة‬ ‫ـ ‪،‬‬ و‬‫جد‬‫ منهم‬ ‫من‬ ‫صرف‬‫ الحديث‬ ‫عن‬ ‫ظاهره‬ ‫بأن‬ ‫جعل‬ ‫شكه‬ ‫متعلقا‬ ‫ببعثه‬ ‫فقط‬ ‫لا ‫بالقدرة‬ ‫الإلهية‬ ‫على‬ ‫ذلك‬ ‫!!‬

‫ويؤكد ‬الأصول‬ ‫الاعتزالية‬ ‫لتحريف‬ ‫الحديث‬ ‫أن‬ ‫أو‬ ‫ل‬‫من‬ ‫اعترض‬ ‫على‬ ‫ظاهره‬ ‫عمرو‬ ‫بن‬ ‫عبيد‬ ‫قبحه‬‫ ‫‫ٱللَّٰه,‬ ‫قال‬ ‫الدولابي‬ ‫في‬ ‫الكنى‬ ‫والأسماء‬ [رقم: ١٥٥٤]: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ عَوْفُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ كَانَتْ «عِنْدَنَا جِنَازَةٌ شَهِدَهَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِيهِمْ عَمْرُو فَذَكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَهْلِهِ إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي فَقَالَ عَمْرُو لَا وَاللَّهِ مَا قَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إِنْ كَانَ قَالَهُ فَأَنَا أَوَّلُ مُكَذِّبٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ التَّكْذِيبُ بِهِ ذَنْبًا فَأَنَا مُصِرٌّ»

‫وأن‬‫ ابن‬ ‫جرير‬ ‫الطبري‬ ‫لما‬ ‫حكى‬ ‫اختلاف‬ ‫الناس‬ ‫حول‬ ‫هذا‬ ‫الحديث‬ ‫وساق‬ ‫أشهر‬ ‫التأويالت‬ ‫له‪،‬‬ ‫بحملهم‬‫ "قدر‬‫" ‬‫على‬ ‫معنى‬ ‫"ضيق‬‫"‬‫‪،‬‬‫ قرن‬ ‫حكاية‬ ‫تأويلهم‬ ‫بما‬ ‫لم‬ ‫يذكره‬ ‫غيره‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫قولهم‬‫‪:‬‬ ‫"‬‫وبالخوف ‬‫والتوبة‬ ‫نجى‬ ‫من‬ ‫عذاب‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫عز‬ ‫وجل‫"‬‫‪،‬‬‫ واشتراط‬ ‫التوبة‬ ‫للنجاة‬ ‫من‬ ‫كبائر‬ ‫الذنوب‬ ‫هو ‬‫اعتقاد‬ ‫المعتزلة‬ ‫ويذكرونه‬ ‫تحت‬ ‫أصل‬ ‫إثبات‬ ‫الوعيد‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫أحد‬ ‫أصولهم‬ ‫الخمسة‬‫‪.‬‬

‫وفي‬‫ مقابل‬ ‫هؤلاء‬ ‫فممن‬ ‫صرح‬ ‫بما‬ ‫مف‬اده‬‫ حمل‬ ‫الحديث‬ ‫على‬ ‫ظاهره‬‫‪:‬‬

‫معاوية‬‫ بن‬ ‫حيدة‬ ‫رضي‬ ‫‫ٱللَّٰه ‫عنه‬ ‫ـ‬ ‫على‬ ‫ما‬ ‫ذكره‬ ‫الطحاوي‬ ‫ـ‬ ‫وكفى‬ ‫به‬ ‫والزهري‬ ‫وأهل‬ ‫الحديث‬ ‫بالبصرة‬‫ وابن‬ ‫قتيبة‬ ‫وابن‬ ‫عبد‬ ‫البر‬ ‫والخطابي‬ ‫وابن‬ ‫حزم‬ ‫وابن‬ ‫تيمية‬ ‫وابن‬ ‫القيم‬ ‫وابن‬ ‫أبي‬ ‫العز‬ ‫وابن‬‫ الوزير‬‫‪.‬‬

‫وأول‬‫ من‬ ‫حشد‬ ‫تأويلات‬ ‫المتكلمين‬ ‫من‬ ‫المعاصرين‬ ‫منتص‬را‬‫ لها‪،‬‬ ‫وأدخلها‬ ‫على‬ ‫الوسط‬ ‫السني‬ ‫المعاصر ‬‫وتأثر‬ ‫بها‬ ‫من‬ ‫تأثر‬ ‫صاحب‬ ‫"الجواب‬‫ المفيد‬ ‫في‬ ‫حكم‬ ‫تارك‬ ‫التوحيد"‬‫‪،‬‬‫ ثم‬ ‫جاء‬ ‫أبو‬ ‫العلا ‬‫الراشد‬ ‫متابعا‬ ‫لخطاه‬ ‫ـ‬ ‫وهما‬ ‫من‬ ‫مدرسة‬ ‫فكرية‬ ‫واحدة‬ ‫مع‬ ‫الشاذلي‬ ‫ومدحت‬ ‫الفراج‬ ‫ـ‪،‬‬ ‫وزاد ‬‫الطين‬ ‫بلة‬ ‫بأن‬ ‫تكلف‬ ‫لحمل‬ ‫أقوال‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫ممن‬ ‫لا ‫يأ‬‫ول‬ ‫الحديث‬ ‫على‬ ‫تأويل‬ ‫الحديث‬‫‪.‬‬

‫وكل ‬‫ما‬ ‫ذكرته‬ ‫ههنا‬ ‫حول‬ ‫تأويل‬ ‫الحديث‬ ‫باختصار‬ ‫إلا ‫اليسير‬ ‫منه‬ ‫قد‬ ‫فصلت‬ ‫في‬ ‫بيانه‬ ‫في‬ ‫عدة‬ ‫مواطن‬‫ من‬ ‫كشف‬ ‫الالتباس‪،‬‬ ‫بما‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫تحريفات‬ ‫أبي‬ ‫العلا ‫الراشد‬ ‫لكلام‬ ‫عدد‬ ‫من‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫حول‬‫ الحديث‪،‬‬ ‫والحمد‬ ‫للَّٰه ‫على‬ ‫توفيقه.‬‬

الدليل السادس:

حيث قال الإمام أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي (ت: ٢٤٢ ه‫ـ‬, وكان ابن راهويه يعظمه جدا): "زَعَمَتِ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ أَشْرَكُوا فِي ذَلِكَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ لَهُ كَلَامًا فَقَالَ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: ١٤٤] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ كَلَامًا وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ فِي تَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكُ} [طه: ١٢] فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكُ} [طه: ١١] خَلْقٌ وَلَيْسَ بِكَلَامِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ خَلْقًا قَالَ لِمُوسَى: إِنِّي أَنَا رَبُّكُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الزَّاعِمُ رَبًّا لِمُوسَى دُونَ اللَّهِ. وَقَوْلُ اللَّهِ أَيْضًا لِمُوسَى فِي تَكْلِيمِهِ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعَبْدُنِي} [طه: ١٣] فَقَدٍ جَعَلَ هَذَا الزَّاعِمُ إِلَهًا لِمُوسَى غَيْرَ اللَّهِ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى لِمُوسَى فِي تَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: ٣٠] فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ قَوْلُهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَاللَّهُ قَالَهُ زَعَمَ أَنَّهُ خَلْقٌ فَقَدْ عَظُمَ شِرْكُهُ وَافْتِرَاؤُهُ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ خَلْقًا قَالَ لِمُوسَى: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: ٣٠] فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الزَّاعِمُ لِلْعَالَمِينَ رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ فَأَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، فَتَبْقَى الْجَهْمِيَّةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيْنَ كُفْرَيْنِ اثْنَيْنِ أَنَّ زَعْمًا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَقَدْ رَدُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَكَفَرُوا بِهِ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: ٣٠] خَلْقٌ فَقَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَفِي هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَيَانٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا بَيَانُ شِرْكِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ خَلْقٌ، وَقَوْلُ اللَّهِ خَلْقٌ وَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ خَلْقٌ" (حلية الأولياء ٩/ ٢٤٤).

‫ومما‬‫ يشهد‬ ‫لهذا‬ ‫قول‬ ‫الإمام‬ ‫أبي‬ ‫عبيد‬ ‫القاسم‬ ‫بن‬ ‫سلام‬ ‫في‬ ‫كتاب‬ ‫الإيمان‪،‬‬ ‫عن‬ ‫الجهمي‬‫‪:‬‬‫ "‬منسلخ‬ ‫عندنا‬‫ من‬ ‫قول‬ ‫أهل‬ ‫الملل‬ ‫الحنيفية‬ ‫لمعارضته‬ ‫لكلام‬ ٱللَّٰه ‫ورسوله‬ ‫صل‬ى ‫ٱللَّٰه ‫عليه‬ ‫وسلم‬ ‫بالرد‬ ‫والتكذيب‬‫" ‬‫اهـ‬‫‪.‬‬

‫وهذا‬‫ لا ‫يقع‬ ‫إلا‬ ‫على‬ ‫من‬ ‫بلغته‬ ‫الحجة‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫فمن‬ ‫لم‬ ‫تبلغه‬ ‫حجة‬ ‫الوحي‬ ‫كيف‬ ‫يكون‬ ‫معارضا‬ ‫لها‬ ‫بالرد ‬‫والتكذيب؟‬ ‫! ‬‫وقد‬ ‫كان‬ ‫ظهور‬ ‫الجهمية‬ ‫زمن‬ ‫السلف‬ ‫كائن‬ ‫في‬ ‫أمصار‬ ‫العلم‬ ‫وأصول‬ ‫السنة‬ ‫فيها‬‫ ظاهرة‬ ‫على‬ ‫يد‬ ‫أكابر‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫في‬ ‫مختلف‬ ‫العلوم‪،‬‬ ‫ول‬هذا‬‫ أخرجهم‬ ‫ابن‬ ‫المبارك‬ ‫ويوسف‬ ‫بن‬‫ أسباط‬ ‫عن‬ ‫فرق‬ ‫أهل‬ ‫القبلة‪،‬‬ ‫وذكر‬ ‫الإمام‬ ‫أحمد‬ ‫إجماع‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫على‬ ‫كفرهم‪،‬‬ ‫وعلى‬ ‫هذا‬ ‫يُحمل‬‫ما‬ ‫قالوه‬ ‫فيهم‪،‬‬ ‫و‫ٱللَّٰه ‫أعلم‬ [أقوال السلف في أن تكفير أعيان الجهمية ومن قال بخلق القرآن مقيد بمن قامت عليه الحجة].

الدليل السابع:

حيث قال الآجري في الشريعة: وَأَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: نا الْوَلِيدُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ قَالَ: نا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ هَزَّانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الْقَدَرُ: نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَآمَنَ بِالْقَدَرِ، فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا، وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُ بِالْقَدَرِ نَقْضٌ لِلتَّوْحِيدِ." أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو، يَرْفَعُونَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ، كَانَ تَكْذِيبُهُ لِلْقَدَرِ نَقْضًا لِلتَّوْحِيدِ، وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ، كَانَتِ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى" وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "بَابُ شِرْكٍ فُتِحَ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ: التَّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ، فَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَيَجْرِي شِرْكُهُمْ عَلَى أَيْدِيكُمْ" (٢ / ٨٧٥-٨٧٧) وذكر هذه الروايات في مصنفات الاعتقاد يدل على أنه ليس في متونها ما يستنكر. وقد صرح لابن القيم بأن ذلك شرك في الربوبية.

ومع هذا فقد ثبت عن جمهور أئمة السلف - إن لم يكن جميعهم - عدم تكفير هم إياهم على التعيين هكذا بإطلاق, ويدل على ذلك ما رواه الخطيب البغدادي في الكفاية في علوم الرواية, تحت بابين متتاليين: "باب ما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم", وبعد أن حكى مذاهب أهل العلم في ذلك ونقل أقوالهم, ختم الباب بقوله: وَالَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي تَجْوِيزِ الِاحْتِجَاجِ بِأَخْبَارِهِمُ مَا اشْتُهِرَ مِنْ قَبُولِ الصَّحَابَةِ أَخْبَارَ الْخَوَارِجِ وَشَهَادَاتِهِمْ, وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْفُسَّاقِ بِالتَّأْوِيلِ, ثُمَّ اسْتِمْرارِ عَمَلِ التَّابِعِينَ وَالْخَالِفِينَ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ, لِمَا رَأَوْا مِنْ تَحَرِّيهِمِ الصِّدْقَ وَتَعْظِيمِهِمِ الْكَذِبَ, وَحِفْظِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ, وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى أَهْلِ الرِّيَبِ وَالطَّرَائِقِ الْمَذْمُومَةِ, وَرِوَايَاتِهِمُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تُخَالِفُ آرَاءَهُمْ, وَيَتَعَلَّقُ بِهَا مُخَالِفُوهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ, فَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةِ..." وأخذ يسرد في أسماء الرواة من مختلف طوائف أهل الدعة من خوارج ومرجئة وشيعة وغيرهم ومحل الشاهد هو قوله: "... وَكَانَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إِلَى الْقَدَرِ وَالتَّشَيُّعِ... وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا, وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ وَسَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَسَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ, وَكَانُوا قَدَرِيَّةً " إلى أن قال: "فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ يَتَّسِعُ ذِكْرُهُمْ, دَوَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا رِوَايَاتِهِمْ, وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارِهِمْ, فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ, وَهُوَ أَكْبَرُ الْحُجَجِ فِي هَذَا الْبَابِ, وَبِهِ يَقْوَى الظَّنُّ فِي مُقَارِبَةِ الصَّوَابِ".

وقال أيضا في "باب ذكر بعض المنقول عن أئمة أصحاب الحديث في جواز الرواية عن أهل الأهواء والبدع": "قد أسلفنا الحكاية عن أبي عبد ٱللَّٰه الشافعي في جواز قبول شهادة أهل الأهواء, غير صنف من الرافضة خاصة, ويحكى نحو ذلك عن أبي حنيفة إمام أصحاب الرأي وأبي يوسف القاضي" (أراد به ما ذكره في الباب الذي قبله قائلا: "وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى قَبُولِ أَخْبَارِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ, الَّذِينَ لَا يُعْرَفُ مِنْهُمُ اسْتِحْلَالُ الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةُ لِمَنْ وَافَقَهُمْ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَهَادَةٌ, وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ, لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ, وَحَكَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي"), ثم ذكر آثارا كثيرة بإسناده أهمها ما رواه عن علي بن المديني رحمه ‫ٱللَّٰه‬ قال: "لَوْ تَرَكْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لِحَالِ الْقَدَرِ, وَلَوْ تَرَكْتُ أَهْلَ الْكُوفَةِ لِذَلِكَ الرَّأْيِ - قال الخطيب: يَعْنِي التَّشَيُّعَ, خَرِبَتِ الْكُتُبُ", ثم قال الخطيب: "خَرِبَتِ الْكُتُبُ, يَعْنِي لَذَهَبَ الْحَدِيثُ". ورواية رواة من القدرية موجودة في الصحيحين وغيرهما.

‫ومعلوم‬‫ أن‬ ‫قبول‬ ‫الشافعي‬ ‫لشهادة‬ ‫أهل‬ ‫الأهواء‬ ‫عدا‬ ‫الرافضة‪،‬‬ ‫يدل‬ ‫على‬ ‫إسلامهم ‫عنده‪،‬‬ ‫كما‬ ‫ذكر‬‫ ابن‬ ‫القيم‬ ‫في‬ ‫الطرق‬ ‫الحكمية‪،‬‬ ‫في‬ ‫الفصل‬ ‫الثامن‬ ‫والسبعين‬.

‫هذا‬‫ وقد‬ ‫ادعى‬ ‫بعضهم‬ ‫أن‬ ‫هذا‬ ‫محل‬ ‫اختلاف‬ ‫بين‬ ‫السلف‬ ‫إن‬ ‫كانت‬ ‫بدعتهم‬ ‫توصف‬ ‫بالشرك‬ ‫أم‬ ‫لا؟‬‫ وزعموا‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫وصفهم‬ ‫بالشرك‬ ‫لم‬ ‫يعذرهم‬ ‫بالجهل‬ ‫والتأويل‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫لم‬ ‫يصفهم‬ ‫بالشرك‬ ‫فقد‬ ‫عذرهم‬‫ بالجهل‬ ‫والتأويل !! ‬‫ولا‬ ‫أثر‬ ‫لهذا‬ ‫التفصيل‬ ‫في‬ ‫كتب‬ ‫الاعتقاد‬ ‫المسندة‬ ‫ولا‬ ‫في‬ ‫كتب‬ ‫الجرح ‬‫والتعديل‪،‬‬ ‫فلو‬ ‫كان‬ ‫هذا‬ ‫ثابتا‬ ‫لنقل‬ ‫عنهم‬ ‫كما‬ ‫نقل‬ ‫تفريقهم‬ ‫بين‬ ‫مثبتة‬ ‫العلم‬ ‫بما‬ ‫سيكون‬ ‫ٱللَّٰه‬ ‫من‬‫القدرية‬ ‫وبين‬ ‫نفاته‬ ‫من‬ ‫غال‬ ‫تهم‪،‬‬‫ خاصة‬ ‫وأن‬ ‫الكثير‬ ‫من‬ ‫الرواة‬ ‫البصريين‬ ‫وقعوا‬ ‫في‬ ‫هذا‪،‬‬ ‫والبصرة‬‫ معقل‬ ‫القدرية‪،‬‬ ‫ومع‬ ‫هذا‬ ‫لا ‫نجد‬ ‫شيئا‬ ‫من‬ ‫تفصيل‬ ‫هؤلاء‪،‬‬ ‫وإنما‬ ‫نجد‬ ‫إطلاق‬ ‫القول‬ بقبول روايتهم, كما قال ابن المديني - وهو أقران الإمام البخاري -: "لَوْ تَرَكْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ لِحَالِ الْقَدَرِ... خرجت الكتب", وعدم الفصيل في ذلك, فلو كان الأمر كما ادعى هؤلاء, لكان هذا مدعاة للتفصيل ولو من بعدهم.

وأوردوا على ذلك شبهة:

وهي ما رواه الخلال في سنة عن الإمام أحمد, حيث قال: "وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ، هَذَا يَكُونُ مُشْرِكًا؟ قَالَ: إِذَا جَحَدَ الْعِلْمَ فَهُوَ مُشْرِكٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، إِذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ حَتَّى يَكُونَ" (٥٥٨/٣, رقم ٩٣٩)

‫واستدلوا‬‫ به‬ ‫على‬ ‫أن‬ ‫قول‬ ‫القدرية‬ ‫ليس‬ ‫شركا‬ ‫عند‬ ‫أحمد‬ ‫خاصة‬ ‫أو‬ ‫عند‬ ‫السلف‬ ‫عامة‫‪.‬‬

‫وهذه‬‫ حجة‬ ‫ضعيفة‬ ‫وذلك‬ ‫أن‬ ‫الخلاف‬ ‫معلوم‬ ‫بين‬ ‫أهل‬ ‫العلم‬ ‫إن‬ ‫كان‬ ‫كل‬ ‫كافر‬ ‫مشرك‬ ‫أم‬ ‫ليس‬ ‫كل‬ ‫كافر‬‫ مشرك‬ ‫[‬انظر‬‫‪:‬‬‫ الفصل‬ ‫لابن‬ ‫حزم ١٢٤/٣،‬‬‫ والجواب‬ ‫الصحيح‬ ‫لمن‬ ‫بدل‬ ‫دين‬ ‫المسيح‬ ‫لابن‬ ‫تيمية ٣ /١١٤-١١٩ ‫‪‫مع‬ ‫اتفاقهم‬ ‫في‬ ‫مواطن‬ ‫دون‬ ‫أخرى‬ ‫فصلها‬ ‫ابن‬ ‫تيمية‬ ‫في‬ ‫الجواب‬ ‫الصحيح‪،‬‬‫ فهؤلاء‬ ‫لم‬ ‫يحرروا‬ ‫مذهب‬ ‫الإمام‬ ‫أحمد‬ ‫في‬ ‫هذا‬‫‪.‬‬

وإنما قوله ذاك من قبيل ما رواه اللالكائي قال: وَأَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: نا يَحْيَى، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: نا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَ سُلَيْمَانُ بْنُ قَيْسٍ الْيَشْكُرِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ قَالَ: "قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَفِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ طَوَاغِيتٌ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَكُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُشْرِكًا؟ قَالَ: لَا." شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ١١٤٦/٦; رقم: ٢٠٠٨. ‫وهذا‬ ‫قيل‬ ‫وقت‬ ‫ظهور‬ ‫الخوارج‬ ‫وتكفيرهم‬ ‫لصاحب ‬‫الكبيرة‬.‬‬

ومن قبيل اللفظ الذي نقله أبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة عن الإمام "مَالك بن أنس لما قيل لَهُ: كَيفَ اسْتَوَى؟ قَالَ: الاسْتوَاء غير مَجْهُول، والكيفية غير مَعْقُول، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالشَّكّ فِيهِ شرك، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة." (١٠٨/٢)

‫ف‬‫المراد‬‫ بالمشرك‬ ‫والشرك‬ ‫في‬ ‫كلا ‫الروايتين‬ ‫الكافر‬ ‫والكفر‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫واضح‬ ‫من‬ ‫السياق‬‫‪.‬‬

‫ويشهد‬‫ لكون‬ ‫هذا‬ ‫هو‬ ‫أيضا‬ ‫مراد‬ ‫الإمام‬ ‫أحمد‬ ‫من‬ ‫قوله‬ ‫ذاك‬‫‪:‬‬

ما رواه الخلال في السنة, قال: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْقَدَرِيِّ، فَلَمْ يُكَفِّرْهُ إِذَا أَقَرَّ بِالْعِلْمِ. (٥٣٢/٣; رقم ٨٧١)

وفال أيضا: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ قَرَابَةٌ قَدَرِيُّ؟ قَالَ: الْقَدَرُ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ إِلَى الْقَدَرِ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا وَجَحَدَ الْعِلْمَ؟ قَالَ: إِذَا جَحَدَ كَفَرَ. (٥٣٢/٣; رقم ٨٧٠)

‫وقال‬ ‫أيضا‫: "القدر لا ‫يخرجه‬ ‫من‬ ‫الإسلام,‬ ‫وإذا‬ ‫جحد‬ ‫العلم‬ ‫كفر"‬ ‫‬‫رواه‬ ‫عبد‬ ‫ٱللَّٰه ‫في‬ ‫السنة‬ ‫[‬نقلا ‫عن‬‫‪:‬‬‫ الخراسانية‬ ‫للطريفي‬ ‫ص‬ ١٨٤]

‫والروايات‬‫ عن‬ ‫الإمام‬ ‫أحمد‬ ‫يفسر‬ ‫بعضها‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫و‫ٱللَّٰه‬ ‫أعلم‬‫‪.‬‬

كتبه ولد الحاج محمد الإفريقي


عودة إلى الصفحة الرئيسية